النيران أعلنت رحيله مبكراً المؤتمر الوطني والثورة .. كواليس وخفايا

تقرير:عبدالرؤوف طه
لم يكن يدور بخلد قيادات المؤتمر الوطني أن هيبة حزبهم ستهتز يوماً ما لدرجة حرق دوره وطرد قياداته من مكاتبهم حتى حل موعد التاسع عشر من ديسمبر من العام 2018م، وجد الوطني عددا من مقاره ودُوره بالولايات قد تحولت لرماد تذروه الرياح ذات اليمين واليسار، وأن النيران التي التهمت مقاره تمددت للهب حول الحزب لحطام لدرجة طرده كلياً من الساحة السياسية عبر قرار حظر صادر من لجنة إزالة التمكين في العام 2020م.

حريق المقرات
رفض ديسمبر من العام 2018م ان يرحل دون ان يخلد أسمه على دفاتر التاريخ السياسي بالسودان ، كان ديسمبر وبالاً على حزب حكم السودان ثلاثين عاماً بالحديد والنار وظل عالي الهيبة طوال ثلاثة عقود حسوما..

بيد أن ديسمبر استطاع ان يهز تلك الهيبة بل حولها لركام ، حيث اضرم محتجون النيران في مقر الحزب بمدينة عطبرة التي خرجت جماهيرها في تظاهرة حاشدة نهار الأربعاء 19 ديسمبر2018م أحتجاجاً على الاوضاع المعيشية..

الجماهير الغاضبة حولت غضبها لبركان التهم دار الوطني وحوله لرماد، وظلت السنة النيران مشتعلة في دار الحزب أكثر من ساعتين، تلك الحادثة كانت بمثابة تحول تاريخي في المشهد السياسي، سأهمت في زيادة معدل التعبئة الجماهيرية لمناهضة حكم المؤتمر الوطني وإسقاطه، ولم تمض سويعات على حرق دار الوطني بعطبرة، حتى اتبع آخرون ذات المنهج، حيث أحرقت ديار الوطني في دنقلا في اليوم الثاني من حرق مقر عطبرة وكان ذلك تحديداً يوم الخميس (العشرين) من ديسمبر، وكلما ازدادت النيران ضراوة كلما زاد حماس الجماهير للمقاومة إذ استمرت الحرائق وقام محتجون في مدنية الرهد أبودكنة بحرق مقر الوطني بالمدينة وإشعال النيران في مكاتب ديوان الزكاة ، بضع دقائق من حريق دار الوطني بالرهد لم تمر حتى خرج المصلون من صلاة الجمعة بمسجد ربك الكبير وقامو بحرق دار الوطني ومقره الرئيسي بمدينة ربك ، كانت تلك الحرائق مقدمة لحريق شامل وايذاناً برحيل المؤتمر الوطني من دفة الحكم التي ظل جاثما فيه على اعناق السودانيين ثلاثين عاماً .

اجتماع طارئ
عقب تلك الحرائق التي هزت عرش المؤتمر الوطني، عقد المكتب القيادي للحزب أجتماعاً طارئاً لتقييم الاوضاع ، تلته اجتماعات مكثفة للأجهزة الامنية، وبعدها صرح رئيس قطاع الإعلام إبراهيم الصديق عن تلك الحرائق، وقال إن ما حدث يعبر عن فئة تريد زعزعة أستقرار السودان وأنهم كحزب مع حق التظاهر المكفول بالقانون..

وتبعه أمين الحزب السياسي عمر باسان الذي قال في تصريحات صحفية إن الحرائق التي طالت دار حزبه يقف خلفها حزب سياسي منبوذ من قبل الشعب السوداني وأن الحزب الذي حرض على الحريق يسعى لزعزعة استقرار البلاد.. بعدها خرج مدير الأمن والمخابرات آنذاك الفريق صلاح قوش عبر مؤتمر صحفي تحدث فيه عن تورط وضلوع جماعة حركة عبدالواحد نور في أحداث عطبرة والشمالية وأن أجهزتهم الأمنية رصدت تسلل عناصرهم إلى تلك المدن..

الوطني المهزوز وقتها بالحريق كثف من اجتماعته ومتابعته وعقد اجتماعاً آخراً حدثت فيه مناوشات بين قياداته، يقول مصدر لـ(السوداني) إن نائب رئيس الحزب للشؤون التنظيمية د. فيصل حسن إبراهيم كان يقلل من خطورة ما يجري ويصفها بالتفلتات العادية لدرجة جعلت عضو المكتب القيادي د. أمين حسن عمر يستهجن تقاريره المقدمة عن الأحداث ويقول إن الوطني لم يعد فاعلاًً وأن خموله جعله عرضةً للضربات المتتالية..

انتهى الاجتماع بحسب حديث المصدر بتوصية حماية مقرات الوطني عبر عناصر أمنية وتكثيف الحوار الشبابي مع من يقودون الاحتجاجات في العاصمة والولايات .

تغييرات في الولاة
مع ازدياد التظاهرات قام رئيس حزب المؤتمر الوطني المخلوع البشير باجراء تعديلات في حكام الولايات ومن المفارقات احتفظ والي نهر النيل التي شهدت أولى شرارة الحريق بمنصبه وهو اللواء حاتم الوسيلة .. بينما أرسل مسؤول الإعلام ياسر يوسف والياً للشمالية وشملت التغييرات ولايات دارفور وكردفان وسنار والنيل الازرق، غير ان التعديلات التي اجراها الوطني لم تساهم في إطفاء الحرائق وظلت الولايات ملتهبة ودخلت ولايات أخرى على الخط خاصة الولايات الشرقية، حيث ظلت ولاية القضارف في حالة احتجاج مستمر مع قمع واسع لتلك أحتجاجات أدى لمقتل اكثر من ستة أشخاص بالقضارف، ولم تفلح روشتة تغيير حكام الولايات في تهدئة الأوضاع حتى اضطر الوطني بعد اقل من شهر لتغيير الولاة الجدد والاستعاضة عنهم بحكام من أصحاب البزات العسكرية بغية الوصول لتهدئة الاوضاع بالولايات.. مؤقتاً خفت التظاهرات للولايات قبل ان تعود للسطح بقوة في إبريل واعتصام الجماهير في أكثر من 13 ولاية تزامناً مع اعتصام القيادة الذي عجل برحيل الإنقاذ.

الطلاب والشباب
كانت أمانتا الطلاب والشباب تحت الضغط في تلك الفترة خاصة التظاهرات المنادية برحيل النظام يقودها الطلاب والشباب في العاصمة والولايات، حيث ظلت الأمانتان في اجتماعات مستمرة يقودها كل من هشام التجاني ومحمد الأمين وكانت الموجهات الصادرة لهما بقيادة حوار مع الطلاب في الجامعات والأحياء والقرى والفرقان بغية تحييدهم واقناعهم بأن التغيير يتم عبر الحوار وليس التظاهر ونجحت أمانة الشباب في قيادة مبادرات شبابية ولكن لم يسعفها الزمن في تحويل الحوار لواقع بعد وصول أمواج المتظاهرين للقيادة العامة، وبحسب معلومات تحصلت عليها (السوداني) أن أمانة الشباب كانت رأس الرمح في قيادة الحوار الشبابي عبر توجيه رسمي صادر لها من قيادة الحزب العليا وكلف أمين الأمانة عصام محمد عبدالله بتكوين غرفة شبابية للحوار مع شباب الأحزاب ولكن تسارع الأحداث نسف كل خطوات الحوار الشبابي.

حراك صامت
قيادات المؤتمر الوطني ظلت في اجتماعات مستمرة للخروج من المأزق الذي تواجهه ووضعت القيادة عدة خيارات لتجاوز المأزق منها الحل السياسي عبر الحوار ، فضلاً عن الضغط على الاجهزة الامنية للقيام بدورها وتفريق التظاهرات ومنعها من التجمع امام القصر الجمهوري أو مجلس الوزراء ، فضلاً عن توجيه القطاع الاقتصادي بوضع روشته عاجلة لحل الازمة الاقتصادية وعلى رأسها ازمة أنعدام السيولة التي كان يعاني منها المواطن ساعتئذ ، وبحسب مصدر لـ(السوداني) ان التوجيهات التي صدرت من القطاع الاقتصادي وأرسلت للجهاز التنفيذي هي تكثيف طباعة العملة وضخ كميات كبيرة منها في الصرافات حتى يتمكن المواطن من الحصول على أمواله دون معاناة مع كتابة خطة لمعالجة أزمة السيولة بيد ان الخطوات لم تفلح في حل المعاناة التي ظلت تتفاقم يومياً بعد يوم .

أخر العلاج الكي
ثلاثة شهور اي من ديسمبر وحتى فبراير والجماهير تخرج للشوارع شاهرة الهتاف الشهير(تسقط بس) تقابله الاجهزة الامنية بالقمع والمطاردة، أزاء ذلك لم تجد قيادات المؤتمر الوطني خياراً غير السعي للخروج من عنق الزجاج عبر الضغط على الرئيس البشير لإجباره على التخلي عن الحكم او اعلانه عدم الترشح مرة اخرى على الاقل، ويقول قيادي بالوطني، شكلت لجنة من الخمسة الكبار وهم ( علي عثمان محمد طه ، ونافع علي نافع ، وابراهيم أحمد عمر ، وأحمد ابراهيم الطاهر والزبير أحمد الحسن ) للضغط على البشير من اجل اقناعه بالتخلي عن الحكم او على الأقل بأعلان عدم الترشح في انتخابات 2020م، وقال المصدر ان المجموعة مأرست ضغوطا على البشير وأجبرته على ضرورة الرحيل ، حيث ابلغهم البشير بعدم رغبته في الترشح للانتخابات وتخليه عن قيادة الحزب وطالبوه اختيار رئيس وزراء خارج حوش المؤتمر الوطني بدلاً عن معتز موسى ، كان ذلك الاتفاق بمناسبة هبوط أمان لخروج الوطني باقل الخسائر .

أنقلاب الدقائق الاخيرة
قال المصدر رغم اقناع البشير بالخيارات المطروحة أمامه ومنها عدم ترشحه في انتخاباب ابريل 2020م وفك ارتباطه بالمؤتمر الوطني وتعيين رئيس وزراء من خارج حوش الاسلاميين تحديداً من صفوف المعارضة وبمباركة عدد من الدول الاوربية شريطة ان يعلن ذلك أمام وسائل الاعلام، الأ انه انقلب في اللحظات الاخيرة ، رغم ان مدير الامن الوطني وقتها صلاح قوش خرج للاعلام قبل ظهور البشير بساعات وأعلن لرؤساء تحرير الصحف ان البشير لن يترشح في الانتخابات ولم يعد رئيساً للمؤتمر الوطني وسيعلن عن تشكيل حكومة جديدة ، غير ان المفاجاة ظهرت بعد أقل من ساعتين من حديث قوش ، حيث عقد البشير لقاءً تنويراً في فبراير بالقصر الجمهوري بحضور الاعلام لم يعلن فيه صراحة عدم ترشحة للانتخابات وترك باب الترشح موارباً بل لم يعلن صراحة فك الارتباط بالوطني.. عدم تنفيذ البشير للمقترحات المتفق عليها كانت بمثابة السطر الاول في دفتر رحيله عن حكمه الذي غادره في الحادي عشر من إبريل 2019م منهياً حقبة من الحكم امتدت ثلاثة عقوداً وبضعة أشهر، ممهورة بدماء السودانيين وعرقهم وعمرهم.

شارك الخبر

Comments are closed.