واهِمٌ من يظن أن كلمة (وطن) تعني حذف (الواو) وتحويلها إلى مجرد (طن) أو طنين يصم الآذان، كما يحدث في بلادنا الآن، والوطنية لا تعني الثرثرة والتحذيرات والتهديدات، كما نلاحظ في استهلاكنا لأطنان من المفردات الفضفاضة في خطاباتنا السياسية، ويتأكد هذا يوميّاً لمن يبتغي الدليل ويتتبَّع (البرهان)، وتحدثنا المعاجم: طَنَّ الذُّبَابُ أي أَحْدَثَ طَنِيناً بِصَوْتِهِ، وطَنَّتِ الأُذُنُ أي رَنَّتْ، بمعنى أَحْدَثَتْ صَوْتاً فِيهِ طَنِين.
الوطن غيرة، إحساس عميق يتسامى على نداءات النفس، تضحية يهنأ بها الأخ والأخت، وابن العم والأرحام وذوو القرابة والجيران وكل حاملي هوية بلادنا، الوطن لا يعني فقط الانتساب لبقعة جغرافية في مكان ما من خارطة العالم؛ والولاء لغير الوطن يتنافى مع الوطنية، ويُعدُّ خائناً لوطنه من يعمد إلى تهريب أي عنصر غير مصرح به، وإن كان جرام ذهب أو أوقية من (الكركدي أو حب البطيخ).
ونقرأ في معجم المعاني: الوطنية الحقة تعني التعلُّق بالوطن وحُبه، وَالْإِخْلاَصُ لَهُ، والتضحية من أجله، الوطنية تعمل ولا تتكلَّم، وهي سياسة اجتماعيّة تقوم على حماية مصالح أهل البلد، ويقال: وطَن فلانٌ بالمكان: أقام به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَناً، ولا يقبل بديلاً منه أو خيانته مهما كانت الإغراءات، وإن كانت رحلة مجَّانية آمِنة إلى القمر.
الوطنية فعل لا قول، خروج من الذات إلى الآخر، خلع جلباب (الأنانية) والانحياز إلى (الغيرية)، حمل الأرواح على الأكف فداءً للمجموع، والوطن ليس عَلَماً بألوان، والعَلَم ليس رمزاً بلا مضمون؛ وإنما هو تجسيد لعاطفة حبٍّ عنيف للوطن، إخلاص في الدفاع عنه وحمايته؛ بما يتجاوز حاجز الخوف والتراخي والهوان.
ومن العجيب حقًّا أن نحارب جميعاً كل من يتجرأ على إهانة عَلَمِ الوطن، بينما نتحارب في الوقت نفسه تحت رايته! ورغم أن مفهوم الوطنية واضح وموحَّد؛ إلا أن ساستنا يرونها عبر مصالحهم الخاصة، والمواطن الحق يا سادة هو من يرى أن غرز (دبوس) في قلب خارطة الوطن جريمة لا تُغتفر.
الوطنية تعني حب الوطن والشعور بارتباط باطني نحوه، وهي انتماء، ولاء، هوية، إرادة، ثقافة، ومن يحصرها في الخطابات السياسية اللاهبة، أو يتخذها مزماراً لجذب الناخبين وقيادتهم وهم في حالة طرب وخدر إلى تأييده: فهو غاشٌّ لهم ومخادع ومخاتل، وسترتد سهامه إلى نحره.
وختاماً لنا تهويمة مع مقولات عن الوطنية، يروى عن الإمام علي رضي الله عنه: “الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة”، ونُقل عن مصطفى السباعي قوله: “عندما يمسك بالقلم جاهل، وبالبندقية مجرم، وبالسلطة خائن، يتحول الوطن إلى غابة لا تصلح لحياة البشر”، ولغازي القصيبي رؤية عن الوطن: “الوطن هو رغيف الخبز والسقف والشعور بالانتماء والدفء والإحساس بالكرامة”، ويقول المثل اليوغسلافي: “حراثة الأرض في الوطن خير من عَدِّ النقود في الخارج”، والاسكتلنديون يرون أن: “اجتماع السواعد يبني الوطن، واجتماع القلوب يخفف المحن”.
Comments are closed.