ما حرضني للكتابة عن هذه الظاهرة هو ان الهمباتة جاءوا إلى الشمال النيلي من نفس المنطقة التي جاءنا منها الجنجويد من بواديهم. وان اختلفت القيم والمبادئ والسلوكيات؛ فبينهما مشترك واحد هو السلب والنهب واخذ حق الغير بقوة السلاح.
تعتبر الهمبتة امتداداً لظاهرة (صعاليك العرب) التي انتشرت في بادية الجزيرة العربية إبان الجاهلية، ولكنها لسبب او لآخر لم تصل السودان إلا في عهد السلطنة الزرقاء، حين انحل رباط السلطة المركزية واصبحت قبضتها ضعيفة على الأطراف، مما أغرى ضعاف النفوس بالاغارة على غيرهم وكسب قوتهم بحد السيف.
ومن الكلمات التي اسيئ فهمها واستخدامها هي كلمة (صعلوك) و(صعاليك) ومعناها في اللغة العربية الفقير الذي تقطعت به السبل فلجأ إلى كسب رزقة بقوة السلاح، والهمباتي كذلك.
كلمة (همباتي) ترجع إلى لهجات بعض عرب كردفان وهي خليط من كلمة (مهاجري) و(همجي) تماما مثلما كانت كلمة (جنجويد) ترجع إلى (جن وجواد وجيم3) اى جن راكب جواد يحمل سلاح جيم3. وكما اسلفنا فإن ظاهرة الهمباتة انتقلت من بوادي كردفان إلى بوادي الشمال النيلي، واشتهر لهم زعماء عظام اشهرهم الطيب ود ضحوية وطه الضرير وود الشلهمة وود فكاك ورحمة التركاوي، كما اشتهر من صعاليك العرب الشنفرة وعروة ابن الورد وتأبط شرا والسليك ابن السلك.
اشتهر الهمباتة وصعاليك العرب بالفروسية والقوة والشجاعة والكرم، ويقال انهم كانوا يقتسمون ما يغنمون مع فقراء جماعتهم او من يصادفونهم وقد تقطعت بهم السبل. الظاهرة المشتركة بين الجماعتين هي الشاعرية المفرطة واللغة العذبة التي تتدفق في عفوية اكتسبوها من بيئة البادية البسيطة.
من أشهر مشاهير الهمباتة (ود ضحوية) واسمة الطيب ود عبد القادر ود سليمان الملقب بـ(ود ضحوية) وضحوية هي جدته لأبيه وهو من (قرية الضيقة) منطقة العالياب جبل ام علي وهم من قبيلة الجعليين. بخلاف عامة الهمباتة، فإن الطيب ود ضحوية ينحدر من أسرة غنية ميسورة، ويقال إنّ سبب سلوكه هذا المسلك هو ان جماعة من الهمباتة قتلوا أخيه فخرج شاهراً سيفه ليأخذ بثاره، ثم استهوته تلك الحياة الوعرة التي تقوم على المخاطرة وخوض الصعاب.
يقال انه فى ليلة مقمرة وقد خرج على جمله هائماً في الصحراء يبحث عن غنيمة أغراه سكون الصحراء وهداة الليل فأنشد قائلاً:
(شده على الحاء في آخر كل بيت)
الليل أمسى والنعسان جرايدو يرحّن
كبس الهم على السلط قلوبن وحّن
كضم الجره سحّار القلوب اتمحّن
نعود سلمانة يا عمر الظنون ان صحّن
*******
(النعسان) هو اسم الجمل الذي كان يرافقه دائماً، و(السحار) اسم لاحد رفقائه، اما (سلمانة) فهي المرأة التي كان ياوي إليها بعد كل غزوة يرتاح ويستجم ويرفه عن نفسه قليلاً.
أما من أبياته التي ترمز لعزة النفس والاعتداد بها والشجاعة ما قاله في الزنزانة عندما جمعه القدر مع لص وضيع سرق (صفائح زيت) ما أن ضربوه حتى اعترف فقال في ذلك:
ماني الخايب البقول سويت
وما نهروني عِن ساعة السعال قريت
ان بردن قروش ماني البخيل صرّيت
وان حرّن بُكار ماهن صفايح زيت
نكتفي بهذا القدر على ان نواصل في مقبل الأيام إن شاء الله.
اترحم هنا على العمة أسماء عثمان عربي التي انتقلت إلى الرفيق الأعلى في الباقير الشرقي مع أهلي الذين حبس عنهم الجنجويد الأشرار كل سبل الحياة فمنعوهم الزراعة بحجة أن صوت وابور المياه يحجب عنهم صوت الطائرات الحربية وبذلك توقفت عندهم الحياة تماماً.
لعنة الله عليهم إلى يوم الدين
القاهرة / العيلفون
٢٠٢٤/١١/١٢م