كما ذكرت في الحلقة السابقة؛ فإنّ من الكلمات التي أُسيئ فهمها واستخدامها كلمة (صعلوك) و(صعاليك)، فالصعلوك في معاجم اللغة العربية هو الرجل الفقير الذي لا يملك مالاً يساعده على تحمل تبعات الحياة فيبحث عن ما يعينه على ذلك بالقوة.
أطلق العرب في البداية اللفظ على مجموعة من النهّابين الشعراء الشجعان، ثم انتقل بعد ذلك من هناك إلى بادية كردفان في عهد السلطنة الزرقاء، حيث اطلق عليهم لقب (الهمباتة)، ثم انتشرت الظاهرة في بوادي الشمال النيلي، خصوصاً منطقة البطانة والشمال الأدنى، ومن ائمتهم ود ضحوية وود شوراني وطه الضرير وود فكاك.
امتاز الهمباتة بخصائص وصفات عدة بعضها ممقوت مثل النهب بالإكراه، وبعضها حميد مما سنتطرق إليه هنا.
من محامد الهمباتة انهم كانوا لا ينهبون الماشية السائبة (سدى) والسدى هي الناقة التي كبر سنها وقل منتوجها فأطلقها اصحابها دون رقيب أو حسيب.
قال تعالى في سورة القيامة الآية ٣٦: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)، اي مهملاً بلا صاحب ولا مراقب.
كان ود ضحوية مع رفقة من أصحابه يجوبون البادية بحثاً عن غنيمة عندما رأى فجأة جمالاً ترعى دون راعٍ؛ فهم بنهبها غنيمة سائغة، ولكنه تذكر أن ذلك في قانونهم لا يجوز؛ إذ يجب أن يأخذها (حمرة عين) بعد أن يخوض معركة تقعقع فيها السيوف ويلعلع السلاح فأنشد قائلاً:
الولد البدور من البوادي ضريبة
يبقى موارك الغربة ويبعد الريبة
ما بتدبى للهاملة البشوفة غريبة
إلا السيدة في الدندر مسيلة زريبة
********
والمعنى أن من يريد أن يغنم غنيمة من البادية عليه أن يبحث عنها بعيداً عن مضارب قبيلته والا (يتدبى) اي يمشي على أطراف أصابعه، و(الهاملة) هي الجمال السائبة بلا سيد؛ وانما يبحث عن السيدة (اي سيدها)، مسيلة (اي مسوى أو عامل لها) زريبة أو حظيرة.
وهكذا فهم لا يستسهلون الغنيمة بل يتعففون عن الساهل منها.
وفي سانحة أخرى، رأى مجموعة من الجمال ترعى بلا راعٍ ولا رقيب فأنشد قائلاً:
الولد البدور الشكره يأبى الشينة
يبعد ردو غادي ينطح بوادي جهينة
اما نجيب فلوسا تبسط الراجينا
ولا ام روبة لا حولين تكوفتو علينا
******
وهو هنا أيضاً ينتهج نفس النهج بالابتعاد عن مضارب القبيلة والبحث عن الغنيمة في (بوادي جهينة) فإما أن يعود بمال وفير يبسط (يسر) من ينتظر وهي (أم روبة) والروبة هو الشعر الغزير أو انها ستحزن و(تكوفت) أي تمشط الشعر في ضفائر غليظة تعبيراً عن حزنها الشديد تماماً مثلما (تكوفت) المرأة شعرها عند فقد عزيز قريب.
والهمباتي يفتخر دائماً بشجاعته وقوته وقلبه الصلب الذي لا يهاب الموت، فيقارن نفسه بمن رضي حياة الدعة والخمول والكسل، فينظم ذلك في شعر يمتلئ قوة وصلابة وسخرية في أن واحد فيقول:
ولدا يطبق المسرة فوق المسرة
يخلف ساقو فوق ضهر اب قوايم يسرى
حقب قربينو (بندقيتو) فوق جربانو خت اب كسرة
فرقاً شتى من ناس يمة زيدي الكِسرة
وللأسف الشديد مازال بعض ابنائنا يجلسون قرب أمهاتهم يطلبون زيادة الكِسرة أو البيرجر والآيس كريم يلحسونه لحسا.
وسلامتكم
القاهرة / العيلفون
٢٠٢٤/١١/١٣م