عندما تجلس أمامه تجذبك شخصيته بهدوء شديد، تحركاته محدودة، كلماته تخرج موزونة بميزان الذهب. ما أن تطرح معه موضوعاً للنقاش طالباً رأيه تأتيك المعلومات مناسبة مرتبة ودقيقة دقة ساعة الزمن، سنوات عمره الطويلة والتي قاربت عقدها التاسع لم تزده سوى نضجاً فوق نضج وسعة أفق ورحابة صدر. يبدأ معك نقاشاً محدداً دونما تشنج أو ارتفاع صوت، يرنو إلى ما حوله في كل الاتجاهات، ويتجول داخل أفكاره بعمق فتأتيك الفكرة والمفردة كاملة كما رتب لها واختار شكل إخراجها.
عندما تجلس إليه لا تحس بالملل وتنجذب إلى ما يقوله، كلما يورده لك مفيد، تمضي الساعات كومضة برق ودونما تشعر تنقضي ساعات وساعات، لا يتضجر ولا يكل ولا يمل، حتى حركته وهو جالس في مقعده يتحرك حيث لا تشعر انه غيّر وضعيته التي هو فيها، طوال لقاءاتي الكثيرة والطويلة يأتي في كامل هندامه، بعقله الحاضر، بذهنه المتقد ولم يعانِ من ضعف ذاكرة.
كل شيء مرتب على طريقته، يجذبك الهدوء بمغناطيسية عالية ويضعك في حالة أشبه ما تكون بمثلث برمودا، فتنصت له مانحاً أذنك وعقلك فتنفتح شهيتك لتسمع وتركز لأن للحديث ما بعده.
اتذكر جيداً أن دارت بيننا حوارات وحوارات في مدن ودول مختلفة، الأكثر إدهاشاً كأنه يقرأ من كتاب طوى صفحته ليعود له مرة أخرى مواصلاً القراءة، ويبدأ من حيث توقف حتى لو كان ذلك بعد أشهر.
لايدعي أمراً لا يعرفه، ولا يدلي بشهادة لم يكن طرفاً فيها وتأتيك إجابته (والله ده أنا مابعرفو)، بينما نعيش الآن في زمن مدعي البطولات والمواقف الزائفة. يُحاسب نفسه بنفسه وما أشجع وأنبل وأندر من يُحاسبون أنفسهم في زمان كثُر فيه تجار سوق نخاسة السياسة.
عبد الحميد بشير مانيس (أبو الجيش) وهذا لقبه من
الذين سجلوا جزءاً من التاريخ البطولي وحفرت أسماؤهم على جدران متاحف الذين ناضلوا فيها، ولكنهم كانوا وظلوا مجهولين في بلدانهم، وربما يُعاد اكتشافهم بعد عقود.
أبو الجيش بلا شك هو أنموذج فريد لمناضل سوداني حقيقي، نازل كل الديكتاتوريات التي عاش في زمانها منذ أن اكتمل نضجه الثوري، انتمى لحزب الأمة وظل يناضل داخله، لكن وفقاً لرؤيته وتصوراته، ولبى نداء العمل المسلح عند تكوين الجبهة الوطنية، وانضم إلى صفوفها وجاء حاملاً السلاح ليواجه النظام المايوي البغيض في يوليو ١٩٧٦.
وبعد فترة من الزمان تغيرت قناعاته وغادر صفوف حزب الأمة، لكنه لم يغادر الثورية التي تمكنت منه وتمكن منها.
سنوات عمره الطويلة العامرة وصفحاته الممتلئة بالبطولات، جعلته على لسان الثوار في دارفور. وما أن يُذكر اسمه تنهال جُمل الاشادة والتحية.
هو چيڤارا دارفور بثوريته الطاغية والتي جعلته يمنح كل حياته لشعبه ووطنه.
وضع نفسه وخبراته الطويلة بين أقرانه والشباب الذين كانوا يتحلقون حوله كأيقونة من أيقونات الثورة.
ومرة أخرى وعندما تيقّن أن حمل السلاح هو الحل، حمل سلاحه وقدّم عصارات ذخيرته النضالية بقناعة أن نظام الإخوان المسلمين لا يمكن منازلته الا بالسلاح، فصال وجال في كل الميادين والتي لم تكن معبده لكنه ساهم في تعبيدها.
ولن أنسى أن الرجل كان رمزاً من رموز السلام والتسامح، لكن كان على قناعة بأن لكل ظرفا موقف.
بالأمس انطوت صفحة عامرة ومليئة بالثورة والثورية، لكن كتاب سيرته سيقرأه الناس في زمان قادم، وسيرته العطرة ستمنح ثوار المستقبل زاداً يعينهم في شق الدروب ومواجهة الصعاب.
وكما قال محجوب شريف
جيلاً جاي حلو الشهد
صبايا وصبية يوم في صباح الغد
عيونهم برقهن لماح سؤالهم رد
أبو الجيش لم يحِد عن الطريق الذي سلكه لما زاد عن النصف قرن من الزمان، واختار لنفسه الاستشهاد في ساحة الوغى مكللاً سيرته الفواحة بعبق الشهادة الغالي الثمن، وفي الميدان الذي لا يلج إليه كل الناس ولا الطريق الذي لا يسلكه إلا أصحاب القضايا الحقيقية ممن اختاروا خياراتهم.
يا أبا بشير، عزائي الحار لكل من عرفك وتتلمذ على يدك وسار معك الدروب العطرة.
وعلى نهج الشاعر الرمز محمد المكي ابراهيم
الذين احتقروا الموت وعاشوا في يد الشعب مشاعل
الذين حصدوا في ساحة المجد فزدنا عددا.
إنه الأيام بالشعب والوطن.
نم هانئاً فالراية لن تسقط وسوف يتلقفها الثوار ثائراً بعد ثائر.
ولك المجد والسلام والاحترام.