إن الذي دفعني لهذه (الخاطرة) ،
تلك ( الصورة ) التي جمعتني به ،
و هو يُكَرِّمُني ، مع المُكَرَّمين ، في
إحدى نسخ ( جائزة الطيب صالح ) ..
و ( الصورة ) كثيراً ما تبعث على الشجى ، و عذب الذكريات و مُرِّها..
و هي حاضرة في ( غُنانا ) ..
( فيها أيه إنسان بِعِزَك لما يحفظ
ليك صورة ) ..
و ( توعدنا و تبخل بالصورة ) ..
و في الخيال ،
( كيف تغطي الصورة صورة !! ) ..
و يبقى المصورون من أنفع العباد
لنا و هم يخلدون آثارنا ..
و من هنا أحييك أيها ( المصور )
البارع الخلوق أخي ( كمال عمر ) ،
و أنت توافيني بهذه الصورة
و أخواتها ،
و أحيي كل مصوري بلادي النابهين ،
و كذلك أتمنى لو أن كل واحد
منكم قرأ ما كتبته الرائعة
( سهير عبدالرحيم ) ، و هي تنعى
لنا ، قبل أيام ، المصور ( جاهوري ) ،
حيث أبانت لنا بأي عقلٍ و فؤاد
كان ( يُصوِّر ) ..
و أقول ..
أنا لست هنا بصدد الحديث
عن الفريق طيار ،
و لا عن الرئيس التنفيذي ،
و لا عن رجل الاستخبارات ،
و لا عن الوزير ،
و لا عن الخطر المُثير ،
و لا عن تاريخ الأسرة و سبقها ..
هذا مما يتفق عليه الناس
و يختلفون ، و هو مما لا يسترعي
إهتمامي ..
و لكنني خلال مسيرتي العملية ،
تعرفت على أناس كانت لهم معي
مواقف ( بيضاء ) أجد لزاماً علي
إبرازها كلما لاح لي منها بارِقٌ ،
و هو بالتالي تَلمُّس لوقائع كنت
من خلالهم طرفاً فيها و أنا أنهض بوظيفتي و اسعى نحو مقاصدي ..
و آتي هنا على ذكره ..
( الفاتح عروة ) ..
فبعد أن اقتربتُ منه أدركت كيف
أنه يسخو بوقته و اهتمامه ..
و ( من ليس يسخو بما تسخو
الحياة به
فإنه أحمق بالحرص ينتحر ) ..
و ليس السخاء وقفاً على المال ،
و لكنه الجود بالأهم و هو
الإهتمام ..
تذهب إليه في مكتبه ، أو يقابلك
عَرَضاً فيظل يُغدِقُ عليك من وقته
و اهتمامه و بشاشته ، حتى تظنن
أن الرجل لاشيء يشغله غيرك ،
و هو يحمل من الأعباء ما يُثقل
راسيات الجبال ..
يظل يحدثك و يحدثك ،
لا يستثقلك ،
و لا يملك ،
و لا ينظر إلى ساعته ،
و لا يوحي إليك بأنه مشغول ..
أذكر مرة و أنا في ( تلفزيون السودان )
كنا في ( مطعم الساحة ) ،
مع ضيف كريم و كان بيننا الأستاذ العلَم ( عبد الدافع الخطيب ) ،
و عندما فرغنا ، و نهضنا ، أقبل
( الخطيب ) على شخص أشار إليه
من هناك ، و ظللنا ننتظر وقتاً طويلاً ،
و الرجل يتحدث إليه باستغراق
و بشاشة ،
و كنت أغالب شعوراً بالتأخير
و الضجر ، و أقول في نفسي :
( لقد تأخرنا ، ده جا من وين كمان !! )
و عند سؤاله :
( ده منو الماسكك ده ؟ ) ،
أجابني : ( ده الفريق الفاتح عروة ) ..
كانت المرة الأولى التي أراه فيها
من على البعد ..
و بعد أن جمعتني به المجامع ،
أيقنت أن الرجل حين تلقاه ، لا
يغادرك أبداً ، و لا يَمَل حتى تَمَل ،
و ما أظنك تَمَلُ ..
و شهدت فترة عملي ( بقناة النيل الأزرق ) شراكة ناجزة مع ( زين ) ،
كانت بمباركة و دفع من ( الفاتح ) ..
فيوماً و الساعة تقترب من الثامنة
مساءً و أنا أغادر ( حي كوبر ) ،
الذي أتيته معزياً ، تلقيت منه اتصالاً أنبأني خلاله بفكرة ( جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي ) ،
و التي ستنطلق فعالياتها
بعد أيام ، و كان ذلك في ( فبراير
٢٠١٠ ) ، و أن هذا المشروع قد
أعدت له ( زين ) كل ما يجعل منه مناسبة عالمية للإحتفاء برمز
( سوداني ) غمَرَت سيرته الآفاق ،
و صنفت روايته ( موسم الهجرة
إلى الشمال ) كأحد أفضل مائة
عمل عربي في التاريخ ، و قد
ترجمت إلى عشرين لغة ..
و بعد أن أبدى لي رغبته في
أن تتولى ( النيل الأزرق ) التبشير
بالمناسبة ، و عكس أهم وقائعها ،
و التي تشتمل على ( الإفتتاح ) ،
و يومين ( للندوات ) و ليلة ( توزيع
الجوائز ) ..
أبديت له كامل استعدادنا ،
بل و غبطتنا بتسخير كل إمكانيات
( القناة ) لانجاح هذا المحفل الفخيم . .
وفي لحظتها أشرت عليه بقولي :
( طيب يا سعادتك ، خليني أقترح
عليك أنو ( القناة ) تقوم ( بالبث
المباشر ) لكل النشاط ، بما في
ذلك ( الندوات ) ، و التي تبدأ عند ( التاسعة ) و تنتهي عند ( الرابعة ) ،
مساءً و بَرَاعِيكم ،
و ما بنختلف ) ..
و أضفت مازِحاً :
( ما بنختلف
أديني قانون هواك
أحفظ حروفو حرف حرف ..
زي ما قال الشاعر “حسن الزبير” ) ..
و أعطاني ، بلا أخذ و رد ، موافقة
غير منقوصة و لا مشروطة ..
و من يومها حظِيت ( النيل الأزرق )
بالحُسنيين ،
عائد مادي معقول في كل دورة ..
و لكن الأكثر أهمية من ذلك هو
أن تحظى ( القناة ) بكنوز ثقافية
و معرفية ، مما مكنها من أن تبِرَّ
بها مشاهديها داخل و خارج
( السودان ) ، و هو ما لم يكن
ليتأتى لها لولا عالم ( زين ) ،
و ( فاتِحه) و ( أركان حربه ) ..
كنت أجد أفذاذ الشعراء و الأدباء
و المفكرين يتقاطرون من كل
أرجاء المعمورة ، مُقبلين على
رصفائهم السودانيين بغبطة
و إكبار لنسعد و تقر عقولنا
و قلوبنا بشعرٍ رصين ،
و قولٍ حسنٍ مُبين ،
و صحائف خالدات ..
و كنت أجد الأستاذ ( علي شمو ) ،
رئيس ( لجنة التحكيم ) ،
و ( علي شمو ) تصدر عنه ( المعالي ) ،
و إليه تنتهي ( المناقب ) ..
و كنت أجد الأديب الأريب
( إبراهيم محمد الحسن ) ،
نائب الرئيس التنفيذي ، و العاشق
للأدب و الفنون و الجمال ،
و إبراهيم له في قلبي منزلة منذُ
أن كانت زينٌ موبيتلاً ..
و أجد صديقي ( صالح محمد علي ) ،
مدير الإتصال المؤسسي ، و هو
من يسهر على الجائزة و من يُذلل
لنا الصعاب و يوطئ السبل ،
و صالح رأيُهُ ثاقب و نظرته راجحة ..
و أجد كل قبيلة ( زين ) ، و نجومها ،
و أزاهيرها يجوبون أرجاء ( القاعة )
كالفراش ..
و لكم أن تتصوروا سيداتي سادتي ،
كم كسبت ( القناة ) من دورات
( جائزة الطيب صالح للإبداع
الكتابي ) و التي بلغت
( الثلاثة عشرة ) ، و التي لولا الحرب لظلت شعلتها متقدة ، و إن كنت
أرى عودتها قريباً أنضر و أكمل
و أجمل ..
و البركة في ( الفاتح ) الذي هيأ
للعالمين هذا الملتقى البهيج ،
و نَفحَ به ( قناة النيل الأزرق ) ..
و ليس هذا فحسب ، و لكني أذكر
له يوم أن أدركني عندما تخلت
( Mtn ) عن رعاية برنامج ( أغاني
و أغاني ) ، و قد أوردت ذلك و أنا أتحدث عن ( البرنامج ) و مقدمه ( الأستاذ السر قدور ) :
( كانت الرعاية من نصيب
( سوداني ) لسنين عدداً ، وذات
مساءٍ ، و البرنامج قد اكتمل إعداده ،
و أنا في طريقي إلى ( بُري ) ، عابراً ( شارع الجمهورية ) ، بمحازاة منزل الراحل ”جعفر سيد أحمد قريش” ، إتصل بي أحدهم من ”سوداني” ، ليبلغني اعتذارهم عن الرعاية ، فانتحيت جانباً من الطريق ،
وأَسْنَدْتُ يَدايَّ على مِقْوَدِ العربة ،
و وضعت بينهما وجهي مغمض
العينين لدقائق ، ثم عدت أدراجي ..
وبعد يوم زفَّ إليَّ الوجيه ( مالك جعفر ) رغبة ( Mtn ) في رعاية
البرنامج و التي تولى متابعتها من
بعد ذلك الأخ ( ياسر أبوشمال ،
فانجبر الكسرُ بأعجل مايكون ..
و بعد سنوات و أنا في جدة ، وقبل أربعة أيام من رمضان أخبرني ،
صديق أن مدير ( Mtn ) أعلن قبل قليل ، في قاعة الصداقة ، أن المبالغ المخصصة للرعاية في ( رمضان ) ستوجه للمسؤولية المجتمعية ،
و لم يكونوا يرعون غير برنامج
( أغاني و أغاني ) ..
لقد غمني هذا النبأ غاية الغم ، وأمَضَّنِي ..
إنها قوارع قاتلة ، تأتيك في وقت
قاتل ، و لكن بعد أقل من ساعة
هاتفني الفريق طيار ( الفاتح عروة ) ،
و بعد ضحكة مُجلجلة ، أراحت
أعصابي قليلاً ، قال لي :
( زمااان قلنا ليك أدينا “الرعاية” ،
قلت مابتبيع الجماعة ، أها باعوك ، لكن نحن في “زين” معاك
و جاهزين “للرعاية “، و دعم هذا
البرنامج الذي يلتف حوله السودانيون ) ..
و قد كان ..
و أيضاً أقبلت ( زين ) على ( القناة )
بكل مناشطها ، و حملاتها الإعلانية،
و مسابقاتها ، مما كان له أبلغ الأثر
في دعم مسيرتها ، و التمكين لها ..
و أنا من جانبي كنت حريصاً على
هذه ( الشراكة ) و أكثر حرصاً على
استرضاء هذا ( الرجل ) لأياديه التي
سلفت ..
و إمعاناً في في الوفاء لهذه
( الشراكة ) أذكر هنا ، و لأول مرة ،
هذه القصة :
عندما نشبت تلك الأزمة بين
( زين ) ، و ( بنك الخرطوم ) بسبب ( كنار ) ، تلقيت دعوة من مدير
( بنك الخرطوم ) ، و كان يومها
السيد ( فادي الفقيه ) ..
جلست إليه و كان حاضراً السيد
( فيصل عباس ) نائب المدير ،
و الذي أصبح فيما بعد مديراً
( للبنك ) ..
و قدم لي ( فادي ) يومها عرضا
مغرياً بأن نفض ( الشراكة ) مع
( زين ) و أنهم في (بنك الخرطوم ) ،
على استعداد للدخول معنا في
( شراكة ) يُحسِنوا لنا من خلالها ( العائد ) ، بما في ذلك برنامج
( أغآني و أغاني ) ..
لم أتردد لحظةً ..
و كان ردي له باستحالة ذلك ،
جملةً و تفصيلاً ..
و ( فادي ) أردني من أصل فلسطيني ،
لذلك هناك من أنبأني بعدها أن
( فيصل عباس ) ، قد نقل له اعتزازه
البالغ بهذا الموقف الذي صدر
عني ..
و تمشياً مع ..
( و لا تنسوا الفضل بينكم ) ،
فإن ذكر الفضل و التغني به
لا يقف عند عظائم ( الصِلات ) ،
و لكنه يتجاوزها إلى ما دونها ،
و إن كانت ( كلمة) ، أو ( لقيمة )
على مسْغَبة أو ( شِراكُ نَعْلٍ ) ..
و كنا في السابق نُباهي و نحتفي ( بالمنديل ) ، فهو على بساطته
رسولُ معزةٍ و وِداد ..
( إنت جميل
و الجابك ليَّ ملاك و جميل
يامنديل ) ..
إن هناك من أوجه المعروف ما لا يلتفت إليها الكثيرون ، و لا يأتيها
إلا من في قلبه مسحة من محبة
و فيوض إعزاز ..
و هو مما ينبغي أن نشجعه ،
و نتواصى عليه بحسبانه من أوجه
الإحسان و القُربى ..
و ( لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ) ..
و النهج القاصد في ذلك ..
( إذا صنعت معروفاً فاستره
و إذا صُنع إليك معروفٌ فانشره ) ..
و ها أنذا أفعل ..
و أنا أشهد ( عقد قران ) إبنة
( الفاتح ) و الذي التأم ( بمسجد
النور ) ، أعاده الله سيرته الأولى ،
و بعد خروجي و جدت أن ( لصّاً )
قد فجعني في ( حزائي ) ،
و ليس هناك أوجع من نَشْلَة
( الجيب ) في ( السوق ) ، و ( سرقة )
( الحِزاء ) في ( الجامع ) ..
خرجت أرتَمِضُ فوجدت إلى جانبي
الوجيه ( مالك جعفر ) ، فرافقته
إلى ( سيارته ) حيث كان محتفظا
( بحزاء ) للطوارئ أقال به عثرتي ..
و بعد فترة ليست بالقصيرة
فوجئت ( بالفاتح ) يعوضني بآخر
أقيَّم و أجود ، بعد أن مازحه أحد الأصدقاء بأن ( العقد طلع مع
حسن بالخسارة سرقوا جزمتو ) ..
و بعد مغادرتي ( لقناة النيل الأزرق ) ،
بعامين ، نزلت ( القاهرة ) مستشفياً
و زائراً ، و صادفت وجود أحد
الأصدقاء المرموقين ، و هو من ذوي
مودته ، و ( الفاتح ) يومها مريضاً
في ( أمريكا ) ، و لم نكن على تواصل
معه ، فإذا به يُغدِق علينا من سؤاله
و أفضاله عبر الأخ ( صالح
محمد علي ) ، و الذي كان يومها
في ( القاهرة ) ، مما جعل إقامتنا
تمتد و تخضر ..
و على هذا فقِس ..
و هذا هو ( الفاتح عروة ) ،
كما بدا لي ..
زول حارّة ،
و زول واجب تجده إلى جانبك
إن لم يكن أمامك ..
و يُبْدي لك من نفسه أنه شخص
عادي و هو غير عادي ،
إذ أنه يحتشد بكل عناصر القوة
و النبوغ ،
و الأنِفة ..
و قد تحقق له من المجد و الكسب
ما لم يُسكره أو يجعله يطأ الثرى
فخراً و تيهاً ..
و تكسوه صلابة تجعله عصيِّاً
على الانكسار في وجه أعتى
التحديات و الابتلاءات ، و هذا
ما يواجه به قدره و هو يعاني
من داء مُقعِد ، لم يحبسه عن
أداء واجبه تجاه بلده و عمله
و أهله و ذوي مودته ..
و أسأل الله أن يمُنّ عليه بعافيته ،
و يجعل من مرضه كفارةً له
من كل ذنب ..
و السلام ..
٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤م