كما ذكرنا في الحلقات السابقة، فإنّ الهمباتة والهمبتة ظاهرة انتقلت إلى بوادي كردفان من جزيرة العرب، وإنّهم امتدادٌ لصعاليك العرب في الجاهلية؛ حينما لم تكن للدولة سلطة قابضة على الأطراف، وإنّهم جماعة اتّخذوا من السلب والنهب أسلوب حياة ومصدر رزق يقتَاتون منه، وبرغم ما في هذا الطريق الوعر من مهالك ومخاطر وقسوة ودماء، فإنّهم من جانب آخر، كانوا شعراء فصحاء، تدفّق الشعر مدراراً من أفواههم تماماً كما تدفّق الدم أنهاراً من سيوفهم.
من الأبواب التي اشتهروا بها، احتل الفخر جانباً هاماً في أشعارهم، فقد افتخروا بالقبيلة والعشيرة والشجاعة والإقدام والكرم ونجدة الملهوف، وقد برز في ذلك منهم كثيرون يتقدّمهم زعيمهم الطيب ود ضحوية وطه الضرير والفنجري.
من أشعار ود ضحوية في الفخر قوله:
الليل حِسّو روّح وحِس سروجنا يبنْن
جدع النَمّه ود أبزيد وحِسُّو يحنْن
نحن الفرسان نظرة عيونا تجنْن
ديمة درقنا بي دم الرجال متحنِّن
*******
أي أنّ الليل قد أمسى (حسّو روّح) وأن صوت السروج مثل الغناء (حس سروجو يبنن) وقد تغنى طه الضرير شعراَ واسمه طه محمد أبوزيد، ونحن فرسان يجن من ينظر إلى عيوننا، أما الدرق (الدرع) فقد تخضب بالدماء (بي دم الرجال متحنِّن).
وفي مناسبة أخرى أنشد قائلاً:
ناس أب آمنة يا الزينة شدوهن مع الاوكات
عقدوا الشورة من تقلي وعقيدن فات
أبوك يا الزينة الخجا المديريات
أبوك يا الزينة عكاز التقلة إن جات
*******
وهنا يخاطب ابنته ويكنيها بالزينة بأنهم قد اتفقوا (عقدوا الشورة) من جبال تقلي (في جنوب كردفان) يتقدمهم زعيمهم (عقيدن فات).
اما هو فقد بث الرعب في كل مكان (خجا المديريات) وهو اليد الباطشة عندما يحمي الوطيس (عكاز التقيلة).
ثم يبلغ مبلغاُ عظيماً في الفخر فيسمو فوق الجميع ويعلو صوته قائلا:
الدايرنو من حنك النمور بنجرّو
والمابنّو بي ريما دقاق بنضرُو
الخاوانا بالزين والعديل بنسرُو
والعادانا بي فروع الشدر بنشرُّو
*******
إنّ من نحبه نخرجه من فم النمر (من حنك النمور بنجرو)، أما العدو (المابنو) فإننا نضره سريعاً (بى ريشا دقاق).
أما بقية الأبيات فتشرح نفسها.
الشاعر الهمباتي ود الشيخ في أبيات قليلة شرح عقيدة الهمباتة حين قال:
أهل ام قُجه ضاربين البيوت انحكّو
كل واحد فراستو قديمة مقطوع شكُّو
ان شافونا من رقبتنا ما بنفكُّو
نحن مسلّطين من الله للمابزكُّو
********
وعقيدة الهمباتة هي الله قد أمرهم (مسلّطين) أن يأخذوا من أموال الأغنياء الذين لا يزكون غصباً عنهم ولا أعرف كيف وصلهم هذا التكليف!!!
أما قصة الهمباتي ود الشلهمة مع صديقه يوسف ود النعمان، فهي ملحمة تراجيدية بامتياز امتزجت فيها الشجاعة بالفخر بالدم بالدموع والحزن.
كان ود الشلهمة واسمه عمر عمر أحمد محمد علي الشلهمة صديقاً ليوسف ود النعمان، الأول همباتي وقاطع طريق ينهب الإبل، والثاني تاجر يشترى منه الإبل المنهوبة ويبيعها لمن رغب في ذلك (غسيل أموال) وقد امتدت أواصر الصداقة بينهما ووثقت عرى الإخوة والصفاء.
في أحد الأيام وجد ود الشلهمة عند صديقه ود النعمان إبلاً تبين من وسمها أنها منهوبة من أخواله اللحويين فنبهه برقه الا يشتري إبلاً منهوبة من أهله ثم مرت الأيام وتكرر الأمر مرة ثانية فثار بينهما جدالٌ عنيفٌ صفع فيه يوسف صديقه ود الشلهمة فأوشكا أن يقتتلان، ولكن حال بينهما الحضور، ثم مشى أهل الخير بينهما حتى تصالحا، ولكن دوام الحال من المحال.
وفي كثير من الأحيان، فإنّ المرأة هي من تتسبب في الشقاق بين الأصدقاء وكما جاء في قصة سيدنا يوسف (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)، فقد كانت زوجة يوسف ود النعمان لا تطيق ود الشلهمة صديق زوجها، فالمرأة تتملّكها الغيرة من كل من يقترب من زوجها ولو كان رجلاً، فعايرت ود الشلهمة بالصفعة التي تلقاها من زوجها، فما كان منه وقد تملّكه الغضب وأعمى بصيرته إلا أن ذهب له في محله وقتله شر قتلة. تم اعتقال ود الشلهمة وفي المحاكمة كان القاضي الإنجليزي متعاطفاً مع ود الشلهمة وحاول ان يخفف عنه الحكم ولكنه رفض في إباء وشمم وخاطب القاضي قائلاً: ان القتيل وراؤه رجال وأنا كذلك فإن لم تحكم عليّ بالإعدام فان الدماء ستسيل أنهاراً.
جاء اليوم الموعود وتجمعت الجموع في ساحة الإعدام يتقدمهم إخوانه وأخواته يحملن أقداح القهوة ليشربها أمام الجميع إظهاراً لفروسيته واستهانته بالموت، وهنا برزت أخته زينب فتغنت قائلة:
ما خجْلت ستات القناع السابل
خليت الوراك ود عينو قوِّي يقابل
مما قمت دوداٌ للقواسي مدابل
الموت اصلو مدروع في الوريد ومتابل
******
إنّك لم تأتِ ما تخجل منه أخواتك (أمات قناعاً سابل)
وان من خليتهم وراءك
ينظرون للآخرين بعين قوية (ود عينو قوّي)، أما الموت فهو دائماً أقرب للإنسان من حبل الوريد.
وهنا برز أخوه الفنجري وهو أيضاً شاعر فحل فخاطب أخته قائلاً:
كان يا الملكة اتشمس نحاسنا وقحّه
واتعتمن لبوس خيلا حديدن شحّه
وأب غوار فسخ منو القميص واتلحّه
داك يوماً بوريك البطل والصحّة
والملكة هما هي أختهم زينب فيخاطبها قائلاً إنّه في اليوم الذي يخرجون فيه النحاس وقد تشمس أي أن أنشد جلده فعلا صوته صاخباً (قحّه) وخرج اخوهم (أب نوار) ووقف عارياً (فسخ القميص)، ففي ذلك اليوم سيعرف الناس من هو الباطل ومن هو البطل.
يقال ان ود الشلهمة قد طلب من العسكر ان يحملوا سرواله لأهله ليسوا أن ابنهم قد قابل الموت بشجاعة ولم (يحدث) أي لم تخرج منه عذرة وقد فعلوا.
ويقال إنّ أهله وعشيرته ما زالوا يحتفظون بسروالك أيضاً ناصع البياض يحكي عن كيف يعيش الرجل عظيماً وكيف يموت شجاعاً أبياً.
وسلامتكم
أنعي لكم رجلاً عابداً زاهداً، عاش في صمت ومات في صمت، عمنا العالم ابن العلماء الدكتور علي خالد مضوي.
كما أنعي أيضاً الصديق الأخ بكري زوج الأخت رباب سعيد، كان رجلاً، عفيفاً، نظيفاً، قليل الكلام، كثير الابتسام رحمهما الله رحمة واسعة.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
القاهرة / العيلفون