نحاس القوم دقّ الفوقو النور بقّ.. الطيب محمد الطيب زهرة منقبي التراث الوطني

كتب: خالد عبد العزيز 

الطيب محمد الطيب 1934-2007 نيل ممتد من أنهر السودان الباسقات، وظل وارف من المعارف في تراث وطنه وهو بذرة وعي وفراشة تجود بالرحيق مُخصبة للزهور والأشجار في خميلة الثقافات السودانية اليانعة. 

 

أفنى الرجل سني حياته وميعة صباه في التنقيب عن التراث والفلكلور الشعبي يجوب حواضر وبوادي السودان ويضرب أكباد السيارات المتهالكة وقتئذ لسبر غور معلومة أو اهزوجة في زمان كان التسفار فيه قطعة من جحيم مع تعذر الشوارع الممهدة آنذاك، وشح وسائل الاتصال.

جلس الراحل مع زعماء العشائر والرعاة والزراع ورموز التراث الشعبيين في اصقاع البلاد لاستجلاء وجمع التراث الوطني، فكان باحثاً رحّالاً رفد المكتبة السودانية بكتب وكتابات مترامية المعارف، وعبّق الأرشيف البصري للتراث السوداني عبر برنامجه التلفزيوني “صور شعبية” الذي تواصل لـ”27″ عاماً حسوماً، وما تزال موسيقى مقدمته ورقصات البداية بالسيوف تجوس في الذاكرة كلما ذكر الطيب.

وأضحى اسم الرجل يأتي ذكره دوماً مقروناً بفتوحاته في مجالات المعارف السودانية، وكان له حظ وافر فيما يختص بالعادات والتقاليد ونمط الحياة والأفراح والأتراح، فكان حصاده كل الصيد في جوف الفرا.

 

وقبل ما يزيد من عقد من الزمان أعادت هيئة الخرطوم للصحافة والنشر بولاية الخرطوم طباعة مجموعة من كتبه فكانت نصراً عزيزاً للبحث التراثي ونصرة للطيب وهو في مرقده الأخير. فأهل العلم والباحثون يأتي الاحتفاء بهم بنشر وتوثيق جهدهم لا عبر الخطب الرنانة، لأنّ الرجل لم يسكب نفسه إلا لإحياء ما انقطع من التراث والفنون والفلكلور لتكون مادة علمية ومعرفية للأجيال القادمات، وماتزال الكثير من مقالاته ودراسته تحتاج للجمع والتوثيق.

والكتب المنشورة متفاوتة الأحجام وهي ست كتب “المسيد، ذاكرة قرية، فرح ود تكتوك حلال المشبوك، الانداية، دوباي وبيت البكا”.

 

وانداح الطيب محمد الطيب عبر ما خط يراعه في شتى مناحي الحياة، فها هو يوثق للمدرسة القرآنية والتعليم الديني الإسلامي في السودان عبر سفره “المسيد” الذي حوى أشهر دور العلم في البلاد مستعرضاً النشاط الاقتصادي والديني والاجتماعي للمسيد وبدايات التعليم في السودان منذ قرون خلون منذ حضارة مروي القديمة والحقبة المسيحية حتى دخول الإسلام في البلاد ودولة الفونج. وتعمق بتؤدة في تاريخ المسيد، فهو يذكر في دنقلا غلام الله بن عائد جد الركابية وأول من أسس الخلوة في شمال السودان الأدنى. ولما تردد أن غلام الله أصوله من اليمن سافر رجلنا لليمن السعيد وأمضى شهراً كاملاً باحثاً عن نسبه ووسائل التعليم الديني في تلكم البلاد ووصلها بالخلوة في السودان. وهكذا انطلق الكاتب يؤرخ لأبرز الخلاوي في الشمال والشرق والوسط وكردفان ودارفور، فنجده يوثق للقوني عبد الكريم يوسف في دارفور ولشيوخ كردفان من أسباط مؤسسي خلوة “القفلة” من لدن الشيخ مونس والشيخ منصور. ولا يهدأ له بالٌ إلا بذكر المجاذيب وخلاوي الحلنقة والعبيد ود ريا والكتياب ومسيد الجوير والشيخ العركي والختمية والشيخ بيتاي ثم خلاوي الكرسني وود عدلان في الشمال. وهكذا يطوف على دُور العلم والعبادة.

 

وبذات القدر يوثق لمنحى آخر فى المجتمع السودانى وهو “الانداية” باعتبارها جانبا مكملا للشخصية السودانية حينئذ. وبحسب بروفيسور عون الشريف قاسم _ وزير الشؤون الدينية والأوقاف الأسبق في تقديمه للكتاب، فإن الطيب محمد الطيب انطلق “بالبحث الميداني المتعمق الذي استغرق ست سنوات طاف فيها الطيب على معظم انحاء السودان وتسقط اخبار ما فيها من الانادى وسمع من رواتها وخرج بحصيلة من المعرفة انتقلت بها – الانداية – من مجرد اسم يدل على مكان مبتذل في عُرف كثير من الناس إلى بوابة عريضة من المعرفة بأحوال جانب مهم ومثير من حياة أهل السودان”. من كتاب الانداية ص 15.

واستعرض الكتاب أعراف وتقاليد الانداية والأشعار المرتبطة بها “خمريات سوداني” ودورها الاجتماعي فى كل أطراف السودان شمالا وجنوبا وشرق وغربا. ومن طريف ما ذكره تبرك صانعات الخمور بالشيوخ وأهل الطريق، ومن ذلك تخصيص برمة يشرب منها مجاناً وهي برمة الشيخ إدريس ود الأرباب تبركا به وهي البرمة الأولى التلى تملأ ويردد معها:

يابا الشيخ برمتك برّه 

خوف المضرة 

ياود الأرباب

يا المحسي الماك كضاب 

يابا الشيخ ادريس

يا ود دقينيس

يا جبل الميس

تحضّر مالن 

وتغيّب بالن

وهنا يعكس تجذر الأثر الديني حتى عند أهل المريسة لأنهم بضع من المجتمع حتى ولو جنحوا عن القيم الدينية فى ذلك الزمان.

ويوضح كيف حارب رجال الدين الخمور ومنها قول الشيخ فرح ود تكتوك:

المريسة 

مرّة وتعيسة 

تاكل الفطيسة 

تمرق الكلمة الخبيثة وتورث النبيشة 

صفوها من عصراً بادى

واجتمعوا فوقا الفدادى 

ابليس ليهن قاضي 

من ملة محمد غادي

 

ويطوف شيخ التراث السودانى في صور الحياة فى القرية في شمال السودان بالتركيز على مسقط رأسه قرية المقرن بريفي بربر عبر كتابه “ذاكرة القرية”. فيعكس النشاط الاجتماعي والديني والاقتصادي في القرية. وعلى ذات النهج يؤرخ في كتابه “بيت البكا” لجانب آخر في المجتمع السوداني عبر عصور ممتدة فيغوص في التقاليد المرتبطة بالموت والدفن والبكاء والنحيب والمناحاة وحتى الرحمتات.

 

ويواصل تدقيقه فى التراث من خلال كتابه “الدوباي”، فيقوم بسياحة عن فن الغناء القديم في كل أرجاء البلاد فيذكر الشاشاى والبوباى والهبى والمسدار والجابودى والدوبيت والجراري والمديح ومن ذلك يرد شاشاي المتصوفة:

نحاس القوم دقّ

الفوقو النور بقا 

نحاس القوم ناس القوم 

الشوق الشوق 

للنبي 

قوم يا عشوق 

للنبى

الحدولو النوق

للنبي

عشاق نضوق

للنبي المخلوق

النبي

 

وبذات القدر كانت رائعته المشهودة فى كتابه “فرح ود تكتوك حلال المشبوك” فسكب مداده عن أحد أشهر رموز التصوف في السودان المشهود له بالحكمة والكرامات ومأثور القول. ومضى في الكتاب بأسلوب البحث العلمي متجنباً أساطير الرواة. وهو بهذا الضرب يجعل النظر حديدا لاثر “الفقرا” من أهل الطريق في التربة السودانية ضمن جهد هذا الباحث للتوثيق والتعريف بالمجتمع السوداني.

 

ونهل الطيب محمد الطيب بعصامية نادرة من علم الانثروبولوجى وتراث الشعب السوداني وأمضى جل وقته في هذا الدرب وكما ذكر د. عبد الله علي إبراهيم في كلمته عن الراحل بأن فحولته ومباحثه في عمق الروح السودانية “كفيلة بوضع يدنا على علل تعليم المدارس المستحدثة التي تجفف ملكات خريجيها”. فالرجل لم يحمل الدرجات العلمية الرفيعة ولكنه سلك رغم ذلك طرق البحث وسبر اغوارها. وتقديراً لمجهوداته فقد منحته جامعة الخرطوم درجة الماجستير الفخرية في عام 1982.

وقد كان الرجل أمة لوحده في ضروب التراث والثقافات السودانية والفلكلور، وهذا يستوجب أن تكون هناك التفاتة لتوثيق كل أعماله ومن ضمنها برنامج “صور شعبية” بتلفزيون السودان ومقالاته الصحفية وبرامجه الاذاعية فلربما يحين عهد مزدهر من الزمان لتأسيس مركز الطيب محمد الطيب للتراث والدراسات السودانية، ليصبح امتدادا لوحدة ابحاث السودان التي انطلق منها الراحل وحتى يكون المركز موئلا للمعارف للباحثين في مسيرة الطيب وآخرين لتتسع آفاق المعرفة والتنقيب في تاريخ السودان القديم والحديث ومباحث الاجتماع. فتخليد الاسم يعنى بالضرورة استنهاض المعارف وتشجيع الباحثين وتهيئة البيئة المناسبة لإثراء المكتبة السودانية بمعاول وادوات البحث العلمي، وهي من ارفع واجبات المجتمع والدولة، لأن الثقافة والفنون والتاريخ والآثار هي ضمير الأمة وقوتها الناعمة وجسرها المتين نحو المستقبل والمجد.

 

*خالد عبد العزيز

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.