الهمباتة صعاليك العصر (6).. الختام

🖋️ هشام الخليفة

اليوم نختم هذه الحلقات، عن ظاهرة امتدت في تاريخ السودان الحديث، وانتشرت في بواديه فلطختها بالدماء والنهب والسلب وفي آن واحد نثرت الشعر سيالاً ومشاعر رقيقة دفاقة، فاختلطت الدموع بالعاطفة، والسلب والنهب بالشجاعة والإقدام. 

 

بدأ ذلك الاضمحلال للظاهرة مع الغزو التركي ودخول محمد علي للسودان، حيث فرض سلطان الدولة على الأطراف، فحارب الظاهرة حربا لا هوادة فيها، ساعد على ذلك ان الحواضن الاجتماعية التي كان يحتمي بها “الهمباتة” أصبحت تلفظهم لسبب مغاير تماماً، فقد بدأت المقاومة الخفية للغازي الدخيل وللظلم والعسف، وامتد ذلك ليشمل الظلم عموماً حتى وان جاء من أقرب الأقربين وهم بنو جلدتهم من “الهمباتة”!!!

أضف إلى ذلك تنامي المشاعر الدينية التي ترفض المخالف لشريعة الإسلام من سرقة وسلب ونهب وقتل. وعندما جاء الحكم الوطنى فى العام 1956م كانت كل العوامل قد تضافرت لتلفظ الظاهرة تماماً من المجتمع فبدأت الحكومات في تشريع القوانين التي تجرِّم الظاهرة، وتوّجها الرئيس جعفر نميري بسن قوانين رادعة بحق كل من يمارس الهمبتة، وصلت حد الحكم بالإعدام، وكذلك سار الرئيس عمر البشير على نفس المنوال.

 

في عهد الإنقاذ، ابتدع احد المسؤولين طريقة جديدة وهو الأديب الشاعر كامل عبد الماجد أحمد زين الذي تم تعيينه معتمدا لمنطقة “بارا” في كردفان، فقد فكر تفكيراً يعتبر خارج الصندوق (out of the box) فجمع رؤوسهم في وفد تزعمه احد العُمَد وارسلهم لأداء شعيرة العمرة ربما يهديهم الله فيتركوا ما هم فيه من ضلال.

سارت الأمور على خير ما يرام وأدوا الشعائر كاملة، غير ان الهمباتة وهم في طريقهم من المدينة إلى جدة متوجهين إلى السودان راؤا منظرا أثار فيهم لواعج الشجون وكوامن الذكريات، فقد رأوا ابلاً ترعى على جانب الطريق فانشد أحدهم مخاطباً صديقه ويدعي “الهادي” قائلاً:

قدر ما أقول أتوب إبليس يلولِح راسو

يقول لي لا تتوب التابوا قبلك خاسو

أشرب وانبسط عند المِدوِّر كاسو

باب التوبة فاتح ما انقفل ترباسو

******

أي إن ابليس يغريه بعدم التوبة (يلولِح راسو) وارتكاب المزيد من المعاصي بشرب الخمر (عند المدور كاسو) ويغريه بالمزيد من المعصية فإن باب التوبة فاتح على مصراعيه (ما انقفل ترباسو). فيرد عليه الهادي قائلاً:

قدر ما أقول أتوب إبليس يقبل غادي

يقول لي لا تتوب إياك كبير أولادي 

أشرب وانبسط عند أم خديداً نادي 

باب التوبة فاتح ما انقفل يا الهادي 

*******

أي أن إبليس لا يستمع لرجائه بالابتعاد عنه (يقبِّل غادي) وذلك لانه أكبر ابنائه اى من يعتمد عليه في اغراء واغواء البشر فيطلب منه بأن يعب من ملذات الدنيا (أشرب وانبسط) عند ست الحسن والجمال (ام خديداً نادي) فباب التوب يا أبني “الهادي” مفتوح على مصراعيه تلج منه في اي وقت تشاء ادخلوها بسلام “آمنين”.

أما كبيرهم فقد (أبدع) وقد تمنى أمنية ليست إلا للأنبياء أولو العزم فقال:

طفنا البيت كمان شفنا المدينة منارة

وتبنا من المعاصي وتبنا من اخطاره

قول (للمعتمد) كان البحر بتضاره

بي ابل السعودي كنا راجعين بارا

*******

وهنا يقول كبير الهمباتة انهم بعد ان أدوا شعائر العمرة (طفنا البيت) فقد تابوا من أخطار النهب والاغارة على الآخرين ولكن… وآه من لكن هذه… لو اوتينا عصا موسى لشققنا البحر (لو البحر بتضاره) ولسقنا هذه الإبل أمامنا إلى مضارب قبيلتنا نواحي “بارا” وهذه أمنية لم تتحقق إلا لكليم الله موسى فكيف لها ان تتحقق لهمباتي وقاطع طريق؟

 

ومن مضارب البدو في كردفان ننتقل إلى قرية “الضيقة” فى منطقة “العالياب” الجعليين، حيث لاذ الطيب ود ضحوية بديار أهله بعد ان كبر ووهن منه العظم ودق وخارت القوى فلزم بيته يتعبد ويستغفر طالباً العفو من رب كريم على ما اقترفت يداه رافعاً يديه إلى السماء وهو يقول:

يامن انبت الزرع المِخدِّر فرعو

يا من بدّل الدم باللبن في فرعو

يا رازق الخلوق حتى المخالفين شرعو 

انبِت فرع شدرتي الديمة يابس فرعو 

******

فيقول طالباً من الله سبحانه وتعالى الذي يبدل الدم باللبن في ثدى الأنعام (في ضرعو) ان يروي شجرة آثامه بالمغفرة فتخضّر بعد ان يبست وذبلت.

 

وفي يومٍ ماطرٍ تجمعت فيه السحب وارعدت الرعود استلقى الطيب ود ضحوية على عنقريبه، وقد استشعر قرب الموت ودنو الأجل فطلب ان يأتوه بمصحف أمسكه بين يديه ورفع رأسه للسماء وانشد:

كيف امسيتي يا المُزنة ام سحاباً شايل 

وشن سويتي في السلمة وبليد ناس نايل

واحدين في الخلا وواحدين يسوقو الشايل

معاكي سلامة يا الدنيا ام نعيماً زايل

*******

فهو يخاطب السماء (المزنة أم سحاباً شايل) عن ما فعلت في “السلمه” (بليد – ديار – ناس نايل)، فهنالك في تلك الصحاري والفيافي أناس يقودون الماشية وفيها الحامل (الشايل). ثم يلوح مودعاً الحياة التي تغري من يتقلب في نعيمها بدوام الراحة والاستراحة، وهو لا يدري ان كل ذلك إلى زوال.

وسلامتكم.

 

أترحّم هنا على أرواح طاهرة غادرتنا إلى دار الخلود الخال، إبراهيم الطيب عبد القادر، الذي توفي في القاهرة والد الصديق وعمر وعبدالله وإخوانهم أيمن والشيخ إدريس وأحمد. رجل نادر الوجود كان طيباً مسالماً، سمح الخصال. العزاء لكل آل عبدالقادر علي وآل حمدنا الله.

وكذلك انتقلت في الباقير الشرقي حبوبتنا آمنة محمد أحمد مضوي زوجة الحبر المصباح أحفاد الشيخ العوج الدرب من سلالة الشيخ إدريس ود الأرباب، رحمها الله رحمة واسعة.

(إنا لله وإنا إليه راجعون) 

 

القاهرة / العيلفون

واتس اب 00201117499444

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.