سياحة عبر التاريخ (2).. حكايات الكرم

هشام الخليفة

الكرم قيمة إنسانية محسوسة وملموسة أيضاً، يستشعرها الكريم وهو يعطي و(المكروم) وهو يتلقى العطايا والهدايا، وهي خصلة موجودة عند جميع شعوب الأرض، ولكن الله اختص شعباً واحداً بالتميز بهذه الخصلة الحميدة، ألا وهو الشعب السوداني، وقد سمعت ذلك من أقوام مختلفين عرباً وأفارقة وعجماً، خواجات (إبان عيوناً خُدُر).

لذلك سأخصص هذه الحلقة بالكامل لقصص سمعت بعضها وشهدت بعضها عن اية ذلك الكرم عياناً بياناً.
أولى تلك القصص كانت في “رأس تنورة” أول التحاقي بـ”شركة أرامكو السعودية” وكان اسمها آنذاك “شركة الزيت العربية الأمريكية”. و”رأس تنورة” مدينة ساحلية جميلة في الجزء الشرقي من المملكة وهي الميناء الرئيسي لتصدير النفط السعودي.
كنا نقيم في “حي نجمة” وهو الحي الذي خصصته الشركة لموظفيها الأجانب، وقد كان (أجنبياً) بالكامل، فالبيوت على الطراز الأمريكي وملاعب التنس وأحواض السباحة والمدارس وملاعب القولف والمطاعم الفخمة، هو باختصار مدينة أمريكية صغيرة في قلب الصحراء.
قصدنا ذات مساء الـ”Surf House” وهو المطعم الرئيسي في المدينة وكان معي الأخ حامد النمير والأخ عبد الله إسحق (رحمه الله) ومعنا زميل لبناني اسمه “الإسكندر كفوري” وكان قادمًا للتو من لبنان وربما أن سر ارتباطنا به هو اسم “كفوري” الذى يذكرنا بـ”عزيز كفوري” التي سودنها السودانيون فأصبحت “كافوري” – وهو رجل أعمال معروف قدم من لبنان واستقر في السودان. بعد أن حملنا أطباق الطعام ووقفنا في الصف جاء (وقت الحساب). أحس الواقفون في الـ(que) أي الصف بتباطؤ في الحركة فاشرأبت أعناقهم ليروا تدافعاً عند (الكاشير) الهندي الذي وقف وهو يراقب هذه المساجلة الغريبة. كنا في الواقع نتدافع بالمناكب للفوز بشرف من يدفع الحساب للمجموعة! بعد مجاهدة ومكابدة فاز أحدنا باللقب وتنفّس الجميع الصعداء. بعد أن رجعنا إلى السكن، تساءل الأخ “إسكندر” عن سبب هذه (الغاغة والفرنغاغة)، وعندما شرحنا له سبب تقاتلنا عند الكاشير استغرب جداً فهو يسمع بهذا لأول مرة!!! بعد ذلك بدأنا نتعلم أن يدفع كل منا حسابه بنفسه، ولكن ظلت الروح الكريمة خامدة في النفس تتوهّج عند الحاجة واتذكر عند ذلك قول شاعر البطانة:
نحن الفي الكرم بنقيف لحدي الشافعة
قولت سوي ساي تحلف تقول لك سامعة
انحنا المافي زيّنا في الأراضي الواسعة
في الطيب والكرم زي المياه الناقعة
****
القصة الثانية بطلتها امرأة بدوية بسيطة ما زلت أذكر طلتها البهية حتى الآن. كان ذلك في العطلة الصيفية وقد حضرت للسودان وقد امتلأ العود والجيب بالريالات والدولار أبو صلعة وهي مرحلة أسميها (عصر ما بعد النفط) وهي تختلف تماماً عن ايام المسغبة والمتعبة التي أسميها (عصر ما قبل النفط). كنت قد وعدت الوالدة (رحمها الله) وزوجتي بفطور كارب في أحد الفنادق الكبيرة التي (نبعت) فجأة في الخرطوم (الهيلتون والمريديان وصحاري) وغيرها من الأماكن الراقية، ولكن في الطريق من العيلفون إلى الخرطوم (بنشر الكفر) فجأةً، فقد كان الطريق غير مسفلت مثل ما هو الآن. وجدت نفسي أقف أمام منزل متواضع هو عبارة عن غرفة واحدة من الطين أمامها راكوبة من القش وقد أطلت من الباب امرأة صبوحة بعد أن شعرت بحركة الناس والسيارة في الخارج. عرفت السيدة بحسها البدوي الفطن أننا في وحسة وأننا نحتاج للمساعدة. عرضت علينا النزول في ضيافتها فتقبلنا عرضها بكل سرور ريثما ينعدل الحال ونواصل الرحلة. أجلست الوالدة (رحمها الله) وزوجتي على عنقريب (هبابي) ثم نادت على صبي صغير حمل الكفر وذهب به إلى “حلة كوكو” لإصلاحه. ثم بعد قليل وقفت هذه الإعرابية البدوية أمامنا وعرضت علينا بصوت كله شهامة وكرامة أن نتهيأ لتناول وجبة الإفطار معها وعندما رأت ترددنا قالت مغرية لنا لتناول ما عندها من طيبات: (والله عندي طحنية). وقفت الكلمات في حلقي فلم أعرف بماذا أرد!!! هذه امرأة تجود بأفخم ما عندها وهو (الطحنية) فلم نشأ أن نكسر خاطرها، فجلسنا وتناولنا أشهى وجبة إفطار ذقتها في حياتي ومع أنني تذوقت الطحنية قبلها مئات المرات، غير أن طعمها في ذلك الصباح كان شهياً على غير العادة ربما لأنني كنت أرى السعادة في عيني تلك البدوية البسيطة وهي تجود علينا بأغلى ما عندها. هنا تذكّرت قول عمنا محمد علي أبو قطاطي:
الزول بفتخر ويباهي بالعندو
نحن أصحاب شهامة والكرم جندو
مافي وسطنا واحداً ما انكرب زندو
البعجز يقع بيناتنا بنسندو
الفينا مشهودة
عارفانا المكارم نحنا بنقودا
الحارة بنخودا
*****
أما قصتنا التالية، فهي من بيئتنا المحلية أي العيلفون، وهي من كتاب البروفيسور سيف الدولة مصطفى بركات الأستاذ بالجامعات السعودية عن الإدارة الأهلية. وهو سفر قيم أنصح كل دارس لتاريخ الإدارة الأهلية ونظم الحكم في السودان بالاطلاع عليه. يروي البروف سيف الدولة أن جدهم العمدة محمد عبد القادر كان إدارياً فذاً وضع أسس الإدارة الأهلية في المنطقة، كما أنه كان رجلاً كريماً للغاية وبهذه المناسبة نترحم على روح حفيده عمنا الصادق أحمد حامد رجل ولا كل الرجال وقد فقدت العيلفون بفقده جزءاً من ذاكرتها. كانت للعمدة صداقة وعلاقة خاصة مع الناظر ود أب سن وكانا يتزاوران دائماً وانه عندما كان الناظر ود أب سن يزور العمدة في العيلفون كانوا يعلفون رواحله بالقمح والتمر إكراماً للناظر وقد كانت الماشية آنذاك يعلفونها بالقش وعيش الفتريتة ولكنه إكرام الضيف وهو ليس مثل أي ضيف ولكنه ناظر عموم الشكرية كلهم وهم من يقول شاعرهم:
الديش يوم ماشي والبوش وجود ما اتحوّل
فوق لازم الثريد الضيفو ما بقول طوّل
الفضلى العليهو بخاله ما بتتأوّل
لي زمل الضيوف مخزن ملاهو شووّل
*****
و (الديش) يقصد الضيوف من كثرتهم مثل الجيش وكل هذا فوق (لازم الثريد) وهو المضيف الذي يقدم الطعام وهو قد ملأ مخزنه من (الشو وّل) والمقصود بها جوالات المؤونة. ليس الكرم محصوراً في بيت واحد من بيوت العيلفون ولكنه شيمة كل أهلها، بل كل أهل السودان قاطبة، وبهذا فإننا (شيّالين تقيلة) ومهما تكالبت علينا الإحن والمحن، فإننا سنظل صامدين صابرين وسنقتسم اللقمة معاً ونحن نستمع لحبوبتنا تترنم من أقصى الشمال في ديار الشايقية:
البليله أم ملحاً نضيف
حبة لوبيا وحبة عيش ريف
اليضوقك يحلف يقيف
يا حلاتك في الشلاليف
وإنتي مويتك دوا للنزيف
******
حتى لو نهب الأشرار ممتلكاتنا وكل ما عندنا فسنعيش على (البليلة) طعاماً و(موية البليلة) دواءً حتى ننتصر إن شاء الله وإن غداً لناظره قريب.
وسلامتكم،،،

نترحم على روح الخالة عائشة حسن بابكر صالح (سكرة) التي فاضت روحها الطاهرة في منطقة (ودراوة) ونعزي ابنتها وأبناء أخيها (دريج) وأبناء أب شوك وكل الأهل في العيلفون والجريف غرب.
كما نترحم على روح الخالة رقية بت مصطفى ود الجيلي التي فاضت روحها إلى بارئها بمنطقة (القصيم) وكانت من آخر من تبقى من الدفعة الأولى التي التحقت بمدرسة العيلفون الأولية للبنات ونعزي أبناءها المكلومين، أبناء إبراهيم العاقب وأبناء الخال سليمان الطيب منير والخال إدريس محمد سليمان والخال النعيم محمد سليمان والخال محمد الحسن سعيد وكل أحفاد العارف بالله الشيخ ود الإزيرق في أم قحف والعيلفون والجريف غرب وكل أنحاء المعمورة.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)

القاهرة / العيلفون
واتس آب 00201117499444

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.