فعل المعروف للناس له أثر كبير فى حياة فاعله أو بعد مماته ومن يفعل الإحسان يجزى بالإحسان ان لم يكن فى الدنيا ففى الآخرة الجزاء الأكبر، وقد عرف بذلك الشعب السودانى في سواده الأعظم وما سأورده من قصص هنا هى أمثلة فقط على ذلك.
القصة الأولى عن راعى سودانى اسمه عبد الرحمن الامين. كان عبد الرحمن الامين شاب سودانى نشأ وترعرع فى ريف السودان فتشبع بقيم الإسلام والاستقامة وحسن الخلق اغاثة الملهوف وفعل الخير. وكغيره من الشباب خرج لتحسين أوضاعه الاقتصادية فسافر إلى المملكة العربية السعودية، يبحث عن عمل لبداية حياة جديدة وبما انه كان امياَ لم يتعلم فقد رضى بوظيفة راعى إبل في منطقة نجران وهناك وفوق جبالها القاسية نصب خيمته ووضع متاعه فرش بسيط وانية للطبخ وصنع الشاي والقهوة. كان راضيا بتلك الحياة الموحشة وسط الصحراء والجبال لا يرى فى الافق الا سيارات غادية ورائحة ولم يكن ذلك يشغل باله أبداً، فقد كان جل اهتمامه منصبا على الحلال الذى ائتمنه صاحبه عليه يرعاه ويعلفه ولا يطمئن حتى ينام الجميع.
فى ظهيرة احد الأيام سمع صوتا غريبا فرفع راسه ليرى جسما معدنيا يتلوى فى طريقه من السماء للارض حتى ارتطم بها. نهض عبد الرحمن ثم اسرع الخطى نحو ذلك الشئ المجهول حتى وجد انه طائرة مقاتلة وبداخلها ضابط راح في إغماءة عميقة. يبدو أن الطائرة كانت قادمة من مهمة فى اليمن فى ما كان يعرف بـ(عاصفة الحزم) وهي الحرب التي كانت تخوضها المملكة العربية السعودية، ضد جماعات الحوثي اليمنية وساهمت فيها دول عربية أخرى. كان الضابط خامدا لا يتحرك من مكانه، وقد تهشمت كابينة القيادة وانطبقت عليه حتى كادت ان تزهق روحه.
كابد عبد الرحمن وصارع الحديد المهشم مسخدما قطع الصخر القوية حتى استطاع ان يحرر الضابط من (شرك ام زريدو) وان يحمله على ظهره حتى اوصله لخيمته البعيدة نسبياً عن مكان سقوط الطائرة. بخبرته البسيطة نجح فى افاقة الضابط ثم قدم له قليلا من الماء وكوبا من الشاي الساخن حتى استطاع اخيرا ان يفيقه تماما. قام الضابط بالاتصال بوحدته عن طريق الجهاز الذي كان يحمله والذى كان لحسن الحظ يعمل بكفاءة عالية.
جاءت النجدة سريعاً وتم إجلاء الضابط إلى مركز القيادة لإجراء بقية المعالجات حتى يستكمل عافيته.
اتضح فى ما بعد ان هذا الضابط طيار فى سلاح الجو الملكى الأردني واسمه عدنان نعيم نباص يقود طائرة (F16) المقاتلة وكان ذلك الحادث فى منطقة “خباش” في نجران. فجأةً تحول ذلك المكان المجهول إلى بؤرة اهتمام العالم، ووجد ذلك الراعى السوداني البسيط نفسه محاطاً بمراسلي القنوات الفضائية وفلاشات الكاميرات تكاد تعشى بصره، فلم يكن يفهم كل هذه (الهيصة) وكل ما يعرفه انه قد قام بواجبه وبما يمليه عليه ضميره وهو يتمثل قول شاعر البادية في السودان:
أنا التوب العشارى الباهي زيقو
أنا الدابى ان كمن للزول بعيقو
(وأنا فرج الرجال وكتين يضيقو)
وأنا المامون على بنوت فريقو
*******
(التوب العشارى) طوله عشرة اذرع و(الزيق) هو طرف التوب ويكون دائما بالألوان. الدابي هو الثعبان و(بعيقو) يعنى يصيبه بإعاقة. اما البيت الذي كان نصب اعينه فهو انه كان (أنا فرج الرجال) اى انه سيفرج كربة عن انسان فى ساعة ضيق.
القصة التالية كانت بالكامل في المملكة العربية السعودي، إبان موسم الحج العام ١٩٧٩م. اندلع حريق فجأة فى أحد المخيمات فى مشعر “منى” نتيجة لانفجار أنبوبة غاز. سرعان ما انتشرت النار فالتهمت الخيام والحجاج وكانت النتيجة ٢٥٠ شهيداً. كان الحريق قريباً من مخيم الجالية السودانية.
هنا قام الحجاج السودانيون من تلقاء أنفسهم بإخلاء المخيم بالكامل وافترشوا العراء حتى يكون المعسكر مركزاً لإسعاف المصابين وساعدوا فى جهود الإنقاذ وتضميد الجراح، وقد قال احد الجنود السعوديين وهو يشاهد هذا المنظر الإنساني المؤثر وعيناه تغرورغان بالدموع: (ليتني كنت سودانياً).
القصة التالية عن سودانى ومصرى. السودانى هو طالب اسمه خليفة التحق بـ”جامعة القاهرة فرع الخرطوم”، والطالب المصرى اسمه مصطفى جاء من “حي السيدة زينب” العريق فى القاهرة لتلقى العلم فى “جامعة القاهرة فرع الخرطوم” والتى كان يعمل بها آنذاك فطاحلة العلماء المصريين الدكتور عبد الوهاب المسيرى الخبير في تاريخ الصراع العربى الإسرائيلي والذي أصبح مؤلفه “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” مرجعاً للباحثين فى هذا المجال وآخرين كثر. كانت تجمع خليفة ومصطفى جلسات الانس التى كانت تجمع الطلاب فى ساحة الجامعة فيتبادلون القفشات والضحكات بقلوب صافية لم تعكرها حوادث الأيام بعد. اقترب خليفة ومصطفى من بعضهما البعض فقد جمعت بينهما كيمياء مشتركة فأصبحا لا يفترقان أبداً طيلة فترة الدراسة. كان خليفة يعيش مع مجموعة من الأصدقاء فى منزل مستأجر في “حى الزهور فتحت” وكانت أحوال المجموعة المستأجرة ميسورة لذلك دعا صديقه مصطفى للإقامة معه بالمنزل وقد رحب به الجميع ترحيباً حاراً، ثم ما لبث بطيبة المصرى ولطافته ان اصبح جزءا من المجموعة ثم تطورت العلاقة لتمتد إلى عائلة خليفة فأصبحت امه تعتبر مصطفى المصري مثل ابنها تماما ثم تواصلت هذه العلاقة لتشمل والدة مصطفى المصرية في “حي السيدة زينب” بالقاهرة وهكذا توثقت العلاقة بصورة عميقة جداً. والآن وقد تبدل الحال وجاء خليفة إلى القاهرة هاربا من ويلات الحرب التى شنها طغاة بغاة اوباش سموهم “الجنجويد” فقد وجد في أسرة صديقه المصرى مصطفى حضناً حنوناً وملاذاً آمناً وهما الان يتجولان بين القاهرة والريف المصرى حيث جذور المصرى مصطفى في قرية صغيرة على طريق الإسماعيلية الزراعي فيقضيان اوقاتاً طيبة جميلة. وهكذا فإن المعروف الذى انزرع فى الخرطوم اثمر بعد خمسين عاما فى القاهرة.
سأذكر هنا كلاما عن شخص انا اعرف انه لن يرضى بذلك وهو الأخ مرزوق اللحياني وهو صديق عزيز سعودي عملنا معا فى “شركة أرامكو السعودية” وقد ترقى فيها حتى وصل اعلى المراتب وتقاعدنا سوياً، ولكن علاقتنا مستمرة حتى الآن.
قام الأخ مرزوق بالتكفل بنفقات ثلاث من الطالبات المتفوقات ممن تعثرت ظروف اسرهن، وذلك حتى اكملن المرحلة الثانوية ودخلن الجامعات وهو لا تجمعهن به معرفة شخصية تجبره على ذلك!!!. لن يعجبه ما قلته فقد قصد هو بطبع البدوى السعودى الأجر عند الله ولكن، من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
افرزت هذه الحرب واقعا مأساوياً بائساً بعد ان نهب هؤلاء اللصوص الاوباش الأموال والممتلكات فأصبح الجميع فى حالة مزرية غير ان بعض الاسر خصوصا التى نزحت إلى خارج السودان تعيش ظروفاً مأساوية للغاية وهنا نهض ابناء السودان الأوفياء ليتصدوا لهذه الكارثة برجولة وبأخلاق سودانية أصيلة.
أعرف كثيراً من الأمثلة على ذلك، فقد اجتمع نفر من احدى المناطق وتدارسوا أحوال الأسر التى نزحت وحددوا الاسر التي ليس لها موارد ثابتة فخصصوا لها مبالغ شهرية تغطى نفقات الإيجار والمعيشة، بل اعرف معرفة شخصية طبيبة وزوجة رجل أعمال معروف قد تكفلت بدفع مبلغ شهرى لأسرة متعففة. جزاهم الله عن ذلك خير الجزاء.
يقول اخواننا المصريين:
افعل الخير وارميه فى بحر جارى
ان ضاع عند العبد ما بيضعش عند البارى
قال تعالى فى سورة الزلزلة آية ٧ :
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).
ايها السودانيون.. شدة وتزول إن شاء الله.
وسلامتكم
انداحت الأحزان على الاهل فقد توفي محمد الزين عبد الصادق بالإسكندرية اخو دكتور عوض والمرحومين احمد وابوصالح وتوفي بالباقير شرق احمد حسن محمد احمد عربى ابن اخ احمد محمد احمد عربى وتوفيت بالقاهرة صلحه حسوبه والدة عزالدين الجدادى وإخوانه لهم من الله الرحمة والمغفرة.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
القاهرة / العيلفون
واتس اب 00201117499444