تحقيق لـ(السوداني) يكشف آثار الحرب في أم درمان.. الدم والدموع وذكريات مُؤلمة عَصِيّة على النسيان
بلغ عدد الجرحى 33,771 شخصًا في أم درمان، توفي نحو 1,720 شخصًا أثناء تلقيهم العلاج داخل المستشفيات، وفقًا لما أعلنه الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة إبراهيم باسم في تصريح خاص لصحيفة (السوداني). وأضاف أن هذه الأرقام لا تشمل الحالات التي لم تتمكّن من الوصول إلى المؤسسات الصحية العامة والخاصة.
أم درمان: علوية مختار
دوماً تُخلِّف الحروب كوارث صحية ونفسية على صحة الشعوب، فتبعات الموت وفراق الأحبة ومشاهد الدماء وأشلاء الضحايا والدمار؛ تتسبّب في تدمير الأسر، ويمتد أثرها في تهتك النسيج الاجتماعي، بالإضافة للمعاناة الاقتصادية وتبعات الفقر والجوع. والأخطر بحسب الخُبراء هي الأضرار النفسية طويلة المدى على الأطفال والكبار، بسبب صدمة الحرب وتبعاتها التي تستمر لسنوات طوال – ما يُسمى “اضطراب ما بعد الصدمة” الناجم عن الحرب، ويرتفع لدى النساء بمقدار الضعف مُقارنةً بالرجال.
لم يدرك مبارك النور أنها ستكون تلك آخر مرة سيشاهد فيها زوجته وهي جالسة بباحة المنزل وحولها صغارها وشقيقها الذي جاءهم زائراً. فقط ربع ساعة كانت كافية لتقلب نهاره ليلاً، وتُحيل الضحكات التي تبادلها مع زوجته وشقيقها قبل خروجه إلى صلاة الظهر بالمسجد القريب من منزله إلى حُزن قاتل.
يقول النور لـ(السوداني) بصوت تكاد تخفيه العبرة: “قبل شهرين وخمسة أيام خرجت من منزلي لأداء صلاة الظهر وتركت زوجتي وأطفالي بالمنزل، وعندما عُـدت وكنت حينها أحاول الدخول من الباب الخلفي للمنزل سمعت دوِّي انفجار، حملتني إلى داخل المنزل، ولكني خرجت مسرعاً ظناً مني أن حدثاً ما وقع في الشارع، ولكن سرعان ما تفاجأت بتهدم جزء من حائط المنزل الخارجي، وعندما دلفت لداخل المنزل كان كل شيء ملطّخاً بالدماء، طفلتي صاحبة العام ونصف تقطعت إلى أشلاء، وابني سبعة أعوام أنهت حياته تلك القذيفة كما شقيقتيه وخاله، ولمحت زوجتي ممدة على الأرض، كانت في حالة يرثى لها بعد أن بترت ساقيها تماماً، فأسعفتها سريعاً إلى المستشفى؛ لكنها لم تنجُ، فبعد يومين من الحادث فاضت روحها”. ويضيف: “لا نملك إلا أن نطلب الصبر من الله فالمصيبة كبيرة”.
خياراتٌ قاسيةٌ
لم يكن النور وحده من عاش تلك المأساة التي قلبت حياته رأساً على عقب، وجعلت الحزن يُخيِّم في قلبه، فمدينة أم درمان لا تزال تحت نيران القصف، تكتب بخط الدم قصص المعاناة التي يعيشها المدنيون هناك بسبب قذائف مدفعية مليشيا الدعم السريع التي تتساقط من حولهم. أصبح التعايش مع هذا الواقع أمراً شبه مستحيل، لكنهم لا يملكون خياراً آخر.
تقول فاطمة محمد في حديث لـ(السوداني)، إنّها مُرغمة على التعايش مع أصوات القصف، لأنه لا يوجد خيارٌ أمامها. وتوضح: “سبق وغادرت منزلي إلى الولاية الشمالية، لكن الإيجارات هناك كانت مرتفعة للغاية، خاصّةً وأننا لا نملك أي مصدر دخل بعد أن فقدنا كل شيء بسبب الحرب، لذا عُدنا إلى أم درمان، حيث الإيجارات أقل نسبياً”. وتضيف: “لكن هنا لا يوجد أمان، فالقصف يوقع العشرات من القتلى يومياً، وأنا لا أستبعد أن أكون هدفاً لذلك القصف في أي لحظة. ومع ذلك، نحن متعايشون مع الوضع، وبالنسبة لنا، يعد هذا الخيار هو الأقل سوءاً”.
الأرقام تتحدّث عن المأساة
كشفت وزارة الصحة بولاية الخرطوم، عن عدد الإصابات التراكمية نتيجة الاستهداف المباشر للمدنيين والمناطق السكنية والمستشفيات منذ بداية الحرب وحتى الآن، حيث بلغ عدد الجرحى 33,771 شخصًا، توفي منهم نحو 1,720 شخصًا أثناء تلقيهم العلاج داخل المستشفيات، وفقًا لما أعلنه الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة إبراهيم باسم في تصريح خاص لصحيفة (السوداني).
وأضاف أن هذه الأرقام لا تشمل الحالات التي لم تتمكّن من الوصول إلى المؤسسات الصحية العامة والخاصة.
وأوضح باسم أنّ باقي العدد من المصابين تماثلوا للشفاء، بعد إجراء 24,513 عملية جراحية لاستخلاص الرصاص والشظايا من أنحاء متفرقة من الجسم. وأكد أن وزارة الصحة، منذ اليوم الأول للحرب، عملت من خلال لجنة الطوارئ الصحية على إدارة القطاع الصحي والحفاظ على تماسك النظام الصحي بالموارد المتاحة، مع تقديم الخدمات الصحية للمحتاجين مجانًا، بما في ذلك علاج مصابي الحرب.
وأشار باسم إلى أنّ هذه الخدمات الصحية تُقدّم عبر 33 مستشفىً في محليات ولاية الخرطوم السبع، من أصل 54 مستشفىً كانت تعمل قبل الحرب، بالإضافة إلى 168 مركزًا صحيًا من أصل 243 مركزًا. كما ذكر أن هناك 24 بنك دم تم توزيعه على المستشفيات لتلبية احتياجات الدم المتزايدة نتيجة الحروب.
موضحاً أنه من المتوقع أن تدخل الخدمة ثمانية مستشفيات في مدن أم درمان وشمال بحري بنهاية الشهر الحالي، وذكر أنّ هناك 34 مستشفىً خاصًا تعمل حاليًا في كافة محليات الولاية من أصل 81 مستشفىً خاصًا، إضافة إلى 91 مركزًا خاصًا من أصل 200 مركز.
وأكد باسم أنّ الوزارة تعاونت مع الجهات المعنية لضمان إمداد المناطق التي يكثر فيها انتشار قوات الدعم السريع بالمعينات الطبية الضرورية عبر التنسيق مع الجهات ذات الصلة. كما أشاد بتوفير مخزون مناسب من الأدوية والمستهلكات الصيدلانية بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى بعض الإمدادات الطبية الأخرى.
تحدياتٌ مُشترَكةٌ
تُعد مدينة أم درمان من المناطق الأمنه نسبياً باستثناء بعض المناطق التي تنتشر فيها مليشيا الدعم السريع، إلّا أنّ عمليات القصف المتأصل يمثل كابوساً لأهالي المدينة، حيث درجت المليشيا على قصف المدينة من مناطق سيطرتها في الخرطوم وبحري والصالحة.
من جانبه، نفى مدير الإعلام بولاية الخرطوم، الطيب سعد الدين، وجود إحصائيات دقيقه حول حجم الأضرار التي تسبب فيها القصف العشوائي على مدينة أم درمان. وقال لـ(السوداني)، إنّ متوسط الوفيات جراء قصف الدعم السريع فاق الثلاثمائة حالة وفاة وستمائة إصابة متفاوتة، بجانب تضرر 220 منزلاً و10 مدارس، إضافةً إلى 4 مستشفيات و5 مراكز صحية و4 محطات مياه، فضلاً عن تضرر خطوط الكهرباء. وأكد أنّ عمليات القصف لا تفرق بين الأحياء السكنية والمناطق العسكرية، ما يمثل تحدياً للمواطنين؛ حيث تتعرض حياتهم للخطر.
ويرى سعد الدين أنّ التحدي الذي يواجه حكومة الولاية يتمثل في الاستمرار في تقديم الخدمات.
جيلٌ يائسٌ
خبيرة الصحة النفسية والإرشاد الأسري د. نجلاء عبد المحمود، كشفت عن وجود تأثيرات نفسية عميقة ومدمرة جراء القصف والحروب على المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء، متمثلة في اضطراب ما بعد الصدمة عند فقدان الأحبة ورؤية الأشلاء، والتي قالت إنها تقود لذكريات متكررة ومؤلمة قد تطارد الشخص لسنوات، بجانب القلق والخوف المستمر، إضافةً إلى الاكتئاب والحزن العميق والعزلة الاجتماعية. وأشارت لحاجة تلك الفئات إلى الرعاية الطبية والنفسية بما فيها جلسات العلاج النفسي والدعم المجتمعي.
وقالت في حديث لـ(السوداني): “مثل هذه الصدمات تحتاج لرعاية حساسة وفورية لتجنب تأثيرها على حياة الناجين ومستقبلهم. وهناك تأثيرات نفسية إضافية للقصف الذي يُوجّـه ضد المدنيين، حيث إن الأطفال الذين يشهدون القصف غالباً ما يعانون من صعوبة النمو النفسي الطبيعي؛ والذي قد يتمظهر في تأخر النطق أو التعلم، بجانب السلوكيات العدوانية أو الانسحابية”.
وأكدت د. نجلاء، على ضرورة توفير الرعاية الشاملة عبر إعادة بناء الأمان لتعزيز الشعور بالاستقرار، بجانب التوعية بالمشاعر المختلفة، وأشارت إلى ضرورة تكوين فرق متخصصة للتدخل فور انتهاء الكارثة لتقديم الدعم الأولي للضحايا وتجنب تدهور الحالة النفسية، وأوضحت لجملة من التأثيرات الاجتماعية للقصف على المدى الطويل والمتمثل في إنشاء جيل يعاني من اليأس؛ الأمر الذي من شأنه أن يقود لمزيد من العنف وانعدام الأمل في المستقبل.