من الغريب أن يتحدّث البعض في هذه الظروف أو حتى يلمح عن أيِّ عمل سياسي، وكأنّ ما يجري في البلاد إنّما هو شغب مظاهرات أو خسائر إضرابات أو تخريب احتجاجات، والتي عادةً ما تنتهي بقرارات أو تغييرات وتعود الحياة لما كانت عليه.. هذه حربٌ أكلت الأخضر واليابس، وبلا شك ستعقبها تداعياتٌ عندما تنتهي بإذن الله تعالى.
الأمر يحتاج لوقفة وتأنٍ وتدبُّر وتبصُّر ومراجعة قبل الحديث عن عملية سياسية.
يتّفق الباحثون والمُختصون وأصحاب الشأن أنّ الاستقرار السياسي هو اُس الممارسة السياسية، وبدون تحقيق وترسيخ هذا الاستقرار تنعدم جدوى العملية السياسية، وهنا يُمكن أن نقول (السُّودان نُمُوذجاً)!!
أعتقد أنّ الوقت ليس مُناسباً ولا الظروف ملائمة للحديث عن استئناف عملية سياسية، على الأقل تضع الحرب أوزارها، وتهدأ البلاد، وتستقر حياة العباد.
وقبل أيِّ شيء، وبعد أيِّ شيء، نقول إنّ أيِّ رؤية أو خطوة نحو عملية سياسية لا تضع في اعتبارها تقديراً وإجلالاً وتعظيماً للدماء الذكية الغالية التي بُذلت وتُبذل في سبيل تحرير الوطن وردع هذا الاعتداء الإجرامي مُتعدِّد الجنسيات، مُتنوِّع الدعم، مُتزايد التّمويل، نقول إنّ أيِّ رؤية للمستقبل السياسي لا تُقدِّر ذلك العطاء، فهي بمثابة استهتارٍ بالبلاد، واستهانة، بل خيانة لتلكم الدماء الذكية وأولئك الرجال العظماء؛ تقبّل الله عطاءهم ونفع البلاد بتضحياتهم وأسكنهم علياء جناته.
هل يُعقل أن ينشغل البعض بعملية سياسية ومازالت الدماء تُراق دفاعاً عن الوطن وحفظاً لوحدته واستقراره، هل بُذل كل ذلك لتعود ذات الأحزاب، ويعود ذات الأشخاص، وتُعقد ذات الاجتماعات واللقاءات، وتُسطر ذات التوصيات، وتُتلى ذات النتائج، وتبدأ ذات الاختلافات والمكايدات، أيعقل هذا؟!!
لا نقول إلغاء العمل السِّياسي ولا الوقوف في وجه التحوُّل المدني كما يحلو القول للبعض، ولكن نقول هذا ليس أوانه، على الإطلاق ليس أوانه!
إنّ مراجعة متأنية للممارسة السياسية خلال العقود الماضية، تبيّن أنّ ما وقع على بلادنا من دمارٍ وخرابٍ وتدميرٍ وتشريدٍ، إنّما هو ثمرة لعشوائية وتخبُّط وعبث الممارسات السياسية التي كانت في معظم فتراتها بلا سَندٍ شرعي، ولا تفويضٍ شعبي، حتى وصل الحال لتُـدار البلاد بوثيقة لم يتّفق عليها حتى مَـن وضعوها!
لسنا في حاجة لنسرد مسيرة الحياة السِّياسيَّة للبلاد والمشهورة بالدائرة الجهنمية، مدنية ثم عسكرية، ثم مدنية، ويعلم الجميع ما يربط بينهما!
وقد انتهى الأمر إلى فترة حكم السفارات والتي شطحت فيها الأحزاب الجديدة بما لم تسبقها عليه سابقاتها، فإذا كانت الأحزاب السابقة تنتصر على بعضها بالتنسيق مع العسكر حتى أصبح العسكر جزءاً أصيلاً في العملية السياسية – رأت أحزاب فترة حكم السفارات أن تقضي على العسكر بضربة واحدة، فكان القول العدواني الشهير (الإطاري أو الحرب)! وحدث ما حدث..!
نقول إجلالاً وتقديراً وتعظيماً للدماء الذكية التي بُـذلت من أجل الحفاظ على البلاد وصون العباد – نقول لا بديل من أن تأخذ القوات المسلحة الأمر بقوة، وأن تواصل عطاءها وبذلها ولا تستعجل أمر المدنية حتى تستقر البلاد أمنياً وسياسياً.
ونرى أنّ الاستقرار السياسي التي تحتاجه البلاد لن يتحقّق إلّا بعد فترة حكم عسكري انتقالي لا تقل مدته عن ثلاث سنوات يتوافق خلالها على دستورٍ يُعتمد بموافقة ما لا يقل عن (خمسة وسبعين في المائة) من المواطنين عبر استفتاءٍ عامٍ، ومن ثَمّ يمكن الحديث عن التحوُّل المدني.
واُجمل القول وأؤكد أنّه لا خلاص من ممارسات الماضي وخلق ثقافة سياسية جديدة تختفي فيها ظواهر الكره والبغض والحقد والضغينة والاستهداف والتآمر والغدر و… و… إلّا بفترة انتقالية للعسكر يتم خلالها اعتماد دستور يتوافق عليه الشعب، إنّ من أوجب واجبات العسكر أن لا تبدأ اي عملية سياسية إلّا بعد التوافق على دستور.
ونواصل رسم خارطتنا إن مد الله في الآجال.
والله المستعان.