أناشيد العودة.. قناديل الطريق (1)

🖋️ هشام الخليفة

علماء

تعرض السودان لهجمة غير مسبوقة في تاريخه الحديث فقد كان العدو سابقاً يأتيه من الخارج، اما هذه المرة فقد انقض عليه بعض ابنائه من الداخل يريدون ان يمسحوه من الوجود، ليقيموا مكانه وطناً متخيلاً مع أبناء عمومتهم المتشردين في صحارى أفريقيا ووديانها، فجاءوا من كل فج عميق بكل توحش الصحراء كالذئاب الضارية ينقضون على اخوتهم في الوطن بكل لؤم وخسة، ولكن بحمد الله وتوفيقه نهض لهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فصدوهم على اعقابهم واذاقوهم نكال ايديهم.

والآن بحمد الله، لاحت بشائر النصر بائنة واقتربت ساعة الفرج. ونحن نستشرف تلك البشريات لابد أن نذكر النجوم اللامعة التي تتلألأ في سماء السودان من المبدعين في كل المجالات الذين بهم سينهض السودان إن شاء الله من كبوته ويقف عزيزا قويا فتيا عصيا على الغزاة الباغين.

في هذه الحلقات سنستعرض بعضاً من هذه الكواكب المنيرة فى العلم والطب والرياضة والادب والفن التى ستهدينا بعون الله إلى طريق العزة والمنعة والتقدم. أول هذه الكوكبة وفي مقدمتها يأتى علماء السودان الذين قدموا ومازالوا يقدمون الفتوحات العلمية كل فى مجاله.
نغوص فى التاريخ البعيد ونرجع آلاف السنين للوراء لنسترجع تاريخا تليدا شاده أجدادنا عندما كان بعض من يحاربوننا الآن بلا تاريخ ولا جغرافيا ونسترجع بهاء ومنعة وقوة “مملكة كوش” التي نشأت في أقصى الشمال النيلى قبل آلاف السنين من الميلاد. نشأت تلك المملكة في مثلث مروى وكرمة والبركل وحكمها رجال ونساء اشداء تركوا بصمتهم فى تاريخ العالم أجمع.

فى العام ١٩٧٣م ونحن طلاب فى “جامعة القاهرة فرع الخرطوم” كلية الآداب قسم التاريخ قادنا الدكتور محمد إبراهيم بكر أستاذ القديم وواحد من أهم من كتبوا والفوا عن تلك المرحلة فى رحلة علمية إلى تلك المنطقة فصار كتابه “تاريخ السودان القديم” مرجعاً هاماً للباحثين. كانت رحلة علمية ترفيهية انفتحت فيها آفاقنا على عظمة الأجداد الذين شادوا حضارة حين كان العالم من حولنا غارقا فى الظلام واذكر من زملاء الرحلة الإخوان الشيخ ابو الحسن وبابكر ووائل جعفر والأخوات ليلى محمد جعفر وحامده ابوبكر وسهير على رخا وسامية الطيب الهادى وثريا جنيدابى. اقمنا كلنا فى داخلية “مدرسة مروى الثانوية للبنات” ولقد كانت فرصة طيبة لنتعرف على الحياة عن قرب فى ذلك الجزء العزيز من الوطن. رأينا هناك آثار تلك الحضارة العظيمة وصادف ان كانت هناك بعثة للتنقيب عن الآثار من “جامعة كاليجري” الكندية ضمت معها اثنين من الطلاب فى جامعة الخرطوم وأعتقد أنهما كانا نواة “قسم الآثار” بالجامعة أحدهما اسمه خضر والآخر على محمد عثمان. ربما لا يعرف الكثيرون ان صناعة الحديد بدأت اول ما بدأت فى العالم في شمال السودان ومازالت البقايا التى تركها هؤلاء الصناع المهرة موجودة تحكى عظمة العلم والعلماء فى ذلك العهد السحيق.

 

اما الإبداع، فقد شاهدناه فى بقايا المدينة الملكية، فقد رأينا معجزة علمية بحق وحقيق هرمان متجاوران بنيا بطريقة تجعل الظل بينهما يمتد طيلة اليوم من شروق الشمس إلى مغيبها دون نقصان كأنما ملوك “كوش” أرادوا ان يقوا زائريهم من أشعة الشمس اللاهبة، وقد ذكر لنا الدكتور بكر أن العلم قد عجز تماما عن تفسير الطريقة الهندسية التى بني بها الهرمين بحيث لا تصل أشعة الشمس للمسافة الفاصلة بينهما أبداً. اما الإعجاز الآخر فقد رأيناه فى قصر الملكة (اماني شخيتا) “اكنداد” والتى من اسمها اشتق السودانيون لقب “الكنداكة”. حكمت هذه الملكة العظيمة الإقليم بقوة وصلابة بل ردت الرومان الذين حاولوا غزو مملكتها وطاردتهم حتى الإسكندرية!!

كان قصر هذه الملكة العظيمة آية فى الابداع الهندسى من توزيع للغرف والممرات والقاعات الفسيحة، اما حمام السباحة (تصور حمام سباحة !!!) فقد كان آية فى الجمال بالدكك الحجرية التى ترتاح فيها الملكة ووصيفاتها قبل وبعد الاستحمام. اما المفاجأة فقد كانت شبكة الصرف الصحى التى تربط حمام السباحة بالنيل وهى مصنوعة من الفخار المقوى او الحجر ومن أركان الحمام الأربعة تبرز رؤوس اسود تخرج منها المياه متدفقة لتملأ الحوض!!! يعتبر هذا اعجازا علميا بكل المقاييس، فقد تم فى عهد كان العالم يعبد الشجر والقرود!!! فلذلك لم يستغرب العلماء عندما اكتشفت بعثة سويسرية هناك عن ما يقال انه اول نشيد وطنى لدولة على الاطلاق.

ومن هناك فى أقصى الشمال نقفز إلى مدينة “العيلفون” تلك البقعة الطاهرة التى أنجبت العلماء والصالحين اولهم ابونا الشيخ ادريس ابن الأرباب الذى وقف عن طريق احد تلاميذه يحاجج احد علماء الأزهر (الشيخ علي الاجهورى) في حرمة التبغ حتى أقنعه، ولذلك واعترافاً بهذا الفضل اهداه قطعة مصنوعة من المعدن سميت “الاجهورية” مازالت موجودة عند خلفائه (حفظهم الله) حتى الآن، والتى يقال انها أول جائزة علمية ينالها عالم في السودان.

 

من هذه البيئة خرج العالم البروفيسور عبد المجيد أحمد المصطفى. ولد البروفيسور عبد المجيد في “حى الأملاك” ببحرى حيث استقر رب الأسرة بحثا عن الرزق وقد تلقى هنالك تعليمه ما قبل الجامعى ثم التحق بجامعة الخرطوم وتخرج فيها العام ١٩٨٣م. وفى العام ١٩٨٧م هاجر إلى امريكا بلد الأحلام حتى يستطيع أن يحقق حلمه الخاص فيصبح شخصا متفرداَ. التحق البروف بجامعة “وست كانسل” التي تحصل منها على درجة الماجستير، اما الدكتوراة فقد تحصل عليها فى مجال جديد هو (النانو تكنولوجى) والذى قاده إلى تحقيق طموحه بعد ذلك فقد نشر ورقة بحثية فى احدى الدوريات العلمية والتى صدف ان اطلع عليها احد علماء “مركز ناسا لعلوم الفضاء” فعمل على ضمه للتيم العامل في “ناسا” وقد كان واصبح البروفيسور عبد المجيد احد علماء “ناسا” وثاني عربى مسلم يلتحق بالوكالة بعد الدكتور فاروق الباز.

 

اتيحت لي فرصة نادرة للقاء البروفيسور عبد المجيد فى جدة فقد اتصل بى الأخ الباشمهندس أسامة محمد بخيت ابن اخته (وبالمناسبة ابناء اخت البروف كلهم مبرزون فى مجالات عدة) للطلب منى ان اقابل البروف فى المطار فقد كان هو في مهمة عمل خارج السعودية وبما ان البروف كان يرغب فى أداء العمرة، فقد طلب منى الأخ الباشمهندس أسامة ان اصحبه فى تلك الرحلة الإيمانية المباركة. كانت تلك فرصة طيبة لاتعرف على البروفيسور عبد المجيد ولاتعرف على طبيعة عمله فى “ناسا”.
أول ملاحظاتي عليه هى التواضع الجم والهدوء التام والابتسامة الخفيفة المحببة وهي صفات العلماء. شرح لى البروفسير عبد المجيد باختصار طبيعة عمله في “ناسا” وقد فهمت منه انهم يعملون على برنامج لاستحداث معدن لصناعة الصاروخ يكون خفيفا جدا وقويا جدا يحتمل الضغط الجوى ولا يحتاج إلى وقود كثير لرحلة الفضاء الطويلة، وأعتقد انهم قد توصلوا لذلك حتى الآن.
اما زوجتة فهى البروفيسور وداد المحبوب وهى اول امرأة عربية مسلمة تعمل في “ناسا” كما انها اول عالم على الاطلاق يحرز درجة الدكتوراة فى مجال “البيئة الفضائية” وقد شكل الاثنان فريقا فريدا يعمل فى اكبر هيئة علمية فى العالم على الإطلاق، وهذا شرف اي شرف ليس لهما فحسب وانما للسودان ككل ومن هؤلاء وبهم سينهض السودان من كبوته إن شاء الله.

العالم الآخر الذى سنلقى عليه الضوء هو البروفيسور محجوب عبيد طه. ولد بروف محجوب عبيد فى مدينة “القطينة” العام ١٩٣٧م وتلقى بها تعليمه ما قبل الجامعى، اما الجامعة فقد التحق بجامعة “درهام” ببريطانيا وتخرج فيها العام ١٩٦٤م بدرجة فى الرياضيات وفى العام ١٩٦٧م أحرز درجة الدكتوراة فى الفيزياء من جامعة “كامبردج”.
على يدي البروف محجوب تمت فتوحات فى علم الرياضيات فابتدع طريقة جديدة سميت باسمه (Taha Method) “طريقة طه” كما ابتدع طريقة أخرى ايضا تسمت باسمه ايضا ( Taha Sum Rule) “قاعدة طه للجمع “. و عندما سقطت سفينة الفضاء “ابولو ١٣” ارجع الامريكان سقوطها للرقم ١٣ الذي يتشاءمون منه ولكن البرفيسور محجوب عبيد عكف على دراسة الحالة وكتب ورقة بحثية علمية ابان فيها الأسباب الحقيقية التى ادت لسقوط المركبة، فدعاه الامريكان لالقاء محاضرة فى وكالة “ناسا” يبين فيها سبب السقوط، فقام بذلك وابهر العلماء الأمريكان حينما اثبت لهم بالبراهين العلمية اسباب سقوط المركبة. حاول الامريكان استقطابه للعمل معهم ولكنه رفض فأغروه بأن قدموا له شيكا مفتوحا يحدد فيه راتبه ولكنه رفض ايضاً ورجع السودان للعمل فى جامعة الخرطوم وكذلك عمل في جامعة الملك سعود بالرياض.

بمثل هؤلاء العلماء وبغيرهم وبسواعد ابنائه المخلصين سينهض السودان الجديد مارداً عملاقاً بعد ان يندحر العدو الغاشم الذى بدأت جحافله الآن تولى الدبر هاربة إلى المكان الذى جاءت منه ومن يتبقى سيفنى وسيندحر وسيندفن تحت تراب ارضنا الطاهرة والله اكبر ولا نامت أعين الجبناء.
قال احد الشعراء الشباب واصفاً ما يحدث الآن:
قلوبنا قوية في ساعة المصايب صاقعة
ونركز في المحاص ان جاتنا دانات واقعة
وكت الكوع يحر نطرى ام خدوداً ناقعة
نحلف ما بنزح واقدامنا مي متراجعة
*****
اما صوت العيلفون الصاخب الشاعر الجاغريو فقد هتف:
نحن جدودنا أظهر من علم بينين
نحن قلوبنا من فولاذ حديد ما بلين
نحن العن عروضنا لؤام وجبارين
بعرفنا الصبر يا الملكة صبارين
*****
نحن أهل كتال كل الدول عارفانا
ما بنهاب من الموت ولا الجبخانة
عدونا نضربه لامن ينقلب عطرانة
والضايق ايدنا كان دخل القبر بطرانا
*****
التحية لقواتنا المسلحة والكتائب المساندة والمستنفرين من أبناء العيلفون الذين يطاردون العدو ليطهروا منه أرض الميلاد الأجداد الآن والى الأبد
وسلامتكم.

*انتقلت الى رحمة الله في القاهرة يوم ٢٠٢٥/٢/٢م الاخت العزيزة فايزة حسن النور سوار الدهب امرأة من طراز نادر، كريمة، بشوشة، طاهرة، مطهرة، فانكسر عمود من اعمدة الأسرة. اعزي نفسي وابناءها حاتم وعمر وأمين ومحمد وهبة وإخوانها اللواء مامون والبروف صلاح ومولانا محمود ودكتور الصادق ودكتور عادل ودكتور محمد وعمار وأخواتها الفضليات محاسن وإحسان وعفاف وأسماء وجميلة ومواهب ونور وسميرة وكل آل سوار الذهب وال الهندي ورل صبير بالعيلفون والخرطوم وكل أنحاء العالم
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
* كما اعزي نفسى وأهلي فى وفاة الأخ العزيز محمد مصطفى موسى أبوزيد والاخت ام سلمى النعيم الخضر اللذين انتقلا إلى الرفيق الأعلى بمدينة الإسكندرية.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
٢٠٢٥/٢/٢م
واتس اب 00201117499444

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.