🖋️ هشام الخليفة
زينت سماء السودان نجوم مضيئة في عالم الغناء والموسيقى والطرب، ظلت ترفد المكتبة السودانية بروائع الألحان وتعمل على ترقية أذواق المستمعين وأحاسيسهم، عرف الناس أكثرهم بينما بقى البعض الآخر فى زوايا النسيان لظروف المكان والزمان برغم ما قدموه من اسهام لافت فى مجال الفن والابداع.
سأسلط الضوء هنا على بعض هؤلاء (المظلومين) استثني منهم واحداً يعرفه الكل تقريبا هو الاستاذ الموسيقار اسماعيل عبد المعين وسأتحدث عنه هنا لأهميته الخاصة.
ولد الاستاذ اسماعيل عبد المعين فى العام ١٩٠٣م في “حلة حمد” بالخرطوم بحري وقد نشأ فى أسرة صوفية ألحقته فى البداية بالخلوة التى تلقى فيها مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.
يذكر الاستاذ اسماعيل عبد المعين ان جدته واسمها فاطمة فور وكانت تعمل داية (مولدة) ايام السلطان علي دينار هي التي غرست فى نفسه حب الموسيقى والألحان فقد كانت تغنى له وهو طفل صغير الأغانى الشعبية بصوت رخيم منغم ويذكر منها اغنية على لسان طفلة لها شقيقة كانت مختلفة عنها من ناحية الشكل فقد كانت ملامح شقيقتها أفريقية بينما كانت هى ملامحها عربية بشعر ناعم منسدل فكانت تغيظها وتخاطبها قائلة:
يا ام قُرقُدى جبٌِدى جبٌِدى
جبٌِدى كان تقدرى
جبٌِدى القُرقُدى
كان يبقى زى شعرى دى
*****
وهى تقصد انها لن تستطيع فرد شعرها لأنه (قُرقُدى) اى خشن!!!
في العام ١٩٣٥م سافر إلى مصر لدراسة الموسيقى وهناك بدأ ينتشر في اوساط الموسيقيين بألحانه واغانيه الأفريقية الشعبية، حتى التقطت أذن اللورد “بادن بأول” مؤسس الكشافة في العالم لحنا جميلا، يقول الأستاذ اسماعيل عبد المعين انه سمعه من فرقة “الخُدير” وهي فرقة عسكرية كانت تجوب أحياء الخرطوم بحري وهي تنشد (الجلالات) العسكرية وتقول كلمات الأغنية:
الطير بيحوم فوق الرِمم
إخوان البنات ربطوا لو كلام
واجعني الزول جرى
*****
استدعاه اللورد “بادن بأول” وطلب منه تركيب اللحن على كلمات نشيد فرقة “المارينز الأمريكية” الذي تقول كلماته:
From the halls of Montezume
to the shores of Tripoli
We fight our country’s battles
in the air on the land and sea
*****
(من قاعات مونتيزوم “المكسيك”
إلى شواطئ طرابلس “ليبيا”
نحاب معارك وطننا
في الجو والأرض والبحر)
*****
قام الاستاذ اسماعيل عبد المعين بتوزيع اللحن على النوته الموسيقية ثم ارسلت له طائرة خاصة حملته من القاهرة إلى شواطئ مالطا حيث كانت ترسو احدى سفن البحرية الأمريكية وهناك مع الفرقة الموسيقية قام الأستاذ اسماعيل عبد المعين بأداء النشيد بلحنه الذي ألفه واصبح هو النشيد الرسمي لفرقة المارينز الأمريكية والطريف انه قد رفض ان يتقاضى أي مقابل مادى كأجر على ذلك!!
عاد الأستاذ إسماعيل عبد المعين إلى السودان وكون فرقة موسيقية أسماها “فرقة البساتين” كانت هى البداية الحقيقية للاداء الموسيقى بطريقة منظمة. فى العام ١٩٤٣م قام بتلحين بعض الأناشيد الوطنية مثل نشيد “صه يا كنار وضع يمينك فى يدى” للصاغ محمود أبوبكر ونشيد “إلى العلا إلى العلا” للشاعر خضر محمد، لذلك لقبوه بفنان المثقفين والحركة الوطنية.
يعتبر الأستاذ إسماعيل عبد المعين هو المؤسس للأداء الموسيقى بالطريقة الحديثة.
نأتى بعد ذلك لإلقاء الضوء على بعض الفنانين “المنسيين” برغم ما قدموه من اسهام مقدر فى عالم الغناء والموسيقى فنتحدث هنا عن المغنى قسم السيد “ادفرينى”. ولد المغنى قسم السيد الملقب بـ”ادفرينى” فى منطقة المسلمية والتى انتقل منها إلى الحصاحيصا، ويعتبر الأستاذ الطيب محمد الطيب الباحث فى التراث الشعبى ان المغنى فضل السيد ادفرينى هو أحد أعمدة تأليف وتلحين غناء الدلوكة للرجال والذي يتنوع ما بين الغناء للفروسية والشجاعة والكرم والمناحة. يصفه من رآه بأنه كان وسيماً اسمر اللون، لامع البشرة، مستدير الوجه، تميزه ثلاثة شلوخ على كل خد وكان دائماً ما يحمل عصى بيمينه فى أناقة باهرة. ابتدع المغنى ادفرينى طريقة فريدة فى الضرب على الدلوكة فكان أحياناً يستخدم “الكوع” الأيمن ثم “الكوع” الأيسر وأحياناً يستخدم الجبهة أو أسفل الذقن دون أن يختل الإيقاع.
تغنى قسم السيد ادفرينى ولحن اول اغنية معروفة فى التراث الشعبى والتى الفتها الشاعرة زينب بت محمد الفضل فى اخيها عبد الله جماع العام ١٥٠٣م والتى تقول كلماتها
كباس دار ام حبر يا دابى الجبال
قلبك صميم من حجر يا دود الوعر
****
زينب تجر النم
فوق تور العماصات البكرف الدم
فى محكم قواس حاشاهو ما بندم
ساطور الرجال جرعة عقود السم
******
ثم تغنى كذلك بأغنية “السيل بابا”
التى الفتها آمنة بت بساطى فى أخيها محمود ود بساطى عندما تم منحه نوط الشجاعة ورتبة البكوية لبلائه فى الحرب العالمية الثانية. وبذلك يكون المغنى قسم السيد ادفرينى قد حفظ لنا إرثاً شعبياً لا يقدر بثمن.
ثم ننتقل بعد ذلك للجانب النسوى الذى قدم لمكتبة الأغنية السودانية ايضا اسهاما مقدرا. وبرغم ما قد يثيره البعض من من سلبيات لهذا الجانب ولكنه جزء من التاريخ لا يمكن حذفه هكذا فالتاريخ لا يتجزأ.
نلقى الضوء هنا على الشقيقتين “ام شمايل” و”أم جباير” او “تومات كوستى” وهما مؤسسات غناء البنات او “التم تم”.
يقول الأستاذ الطيب محمد الطيب ان والدهما هو الشيخ جريقندى وان موطنهما الاصلى هو دنقلا ولكنهما انتقلتا منها إلى مدينة واو!!! ومن واو انتقلتا إلى مدينة كوستى حيث استأجرتا منزلا فى “حى المرابيع” ولكن عندما بدأتا فى ممارسة الغناء قام الاهالى بابعادهما عن الحي، غير ان بعض التجار اشتروا لهما منزل في “حى الرديف” إذ يبدو أن ذلك الحى كان يسوده تسامح اجتماعى اكثر.
ابتدعت الشقيقتان ضربا جديدا من الغناء اطلق عليه اسم “التم تم” وهو خليط من الرقص والغناء فى ان واحد ويقول الأستاذ اسماعيل عبد المعين ان الايقاع افريقى اسمه “تام تام” وقد اخذته التومات من سائقى اللوارى السفرية جاءوا به من غرب أفريقيا إلى كوستى.
تعتبر التومات اول من بدأتا غناء البنات المرتجل البسيط الكلمات والخفيف اللحن فقد كن يرددن اغانى مثل:
عربيتك الصالون
خدرة وجميلة لون
***
وأغنية أخرى تقول كلماتها:
الله لى كوريا
يا شباب كوريا
******
وثالثة عن شاب “قيافه” تقول كلماتها:
يا اللابس الكرفته
من سته لى سته
*****
ويبدو ان هذا الشاب (معضِد) الكرفتة من الساعة السادسة صباحاً حتى الساعة السادسة مساءً وردية كاملة!!!
تطور غناء التم تم فأصبح اكثره رقصاً حتى ان العرسان اصبحن يرقصن على انغامه ليلة الزفاف والآن اصبحت مؤديات هذا النوع من الغناء يطلق عليهن لقب “القونات”.
ثم نأتى إلى حبوبتنا فاطمة بت رحمة الملقبة بـ”أم فوت” من العيلفون وهى اكثرهن مظلومية فقد انتحل كثيرون اهم ما تغنت به إلى أنفسهم.
ولدت ام فوت فى فريق ورا (حى الشاطئ) الآن في العيلفون عشرينيات القرن الماضى، وهناك تشبعت روحها بإيقاعات الصوفية وضربات النوبة ليختلط ذلك مع أهازيج فطاحلة شعراء ومغنى “مثلث برمودا” العيلفون والدبيبة وأم ضواً بان، الجاغريو وود الرضى واحمد المصطفى وسيد خليفة وخلف الله حمد ومبارك حسن بركات. تفتحت ذاكرتها الفنية فى هذا الفضاء الملهم فنشأت وقد أحاط بها الفن من كل جانب. كانت شاعرة مجيدة ذات صوت منغم جميل وقد اختارت نوعاً من الشعر يتناسب مع التكوين العاطفى للنساء وهو شعر “المناحة” أو الرثاء وكانت قد سبقتها عليه أخريات منهن الشاعرة بنوتة بت المك نمر التى نعت أخيها عمارة فى قصيدة عصماء تغنى بها الفنان علي ابراهيم مع الحاجة آمنة جاء فيها:
لواى سلسلن قاهرة بلا تحنيس
دراج عاطلة خيلا بجنو دريس
حى على المن قلبو باعد ابليس
*****
يبكنك بنات حادات غزارة الديس
حزنانات عليك بالوحدة والتجريس
احى على المن قلبو باعد ابليس
******
سارت حبوبتنا أم فوت على هذا النهج فألفت الكثير من المناحات وكانت تؤديها فى الأتراح فى العيلفون وخارجها حتى ان بعض الأسر العيلفونية المقيمة فى العاصمة كانت تنتظر ولا تخرج الجنازة حتى تحضر ام فوت من العيلفون (لتمنِّح) عليها.
اهم المناحات التى ألفتها الحاجه أم فوت هى مناحة “الوليد الضيف” والتى انتحلها غيرها ولكننا شهود عليها لأنها كانت فى الستينات ومناسبتها ان شابا جاء من منطقة الجريف فى رحلة للعيلفون وغرق فى النيل مأسوفاً على شبابه فقامت أم فوت بتأليف المناحة “قطع اخدر” وكانت النساء يرددنها على شاطئ النيل حتى تم استخراج الجثمان رحمه الله رحمة واسعة وتقول بعض كلماتها:
الوليد الضيف غرقتنو كيف
جيبو لى هدومو الراقدة فوق القيف
خلني النمنح بالقرع والسيف
وا سواد امو الاهلو فى الجريف
*****
وهكذا كانت حبوبتنا فاطمة بت رحمة “أم فوت” علماً من اعلام هذا الضرب من الفن. رحمها الله رحمة واسعة.
الآن والعيلفون تستعيد عافيتها بعد دحر هؤلاء الأوباش اللصوص وطردهم منها وقد انتشر فى شوارعها أبناؤها من المستنفرين الشجعان يجمعون الجثث ويطهرون المنازل من الأوبئة والحشرات، لا نملك نحن من فى خارجها الا الدعاء لهم بالنصر والجزاء الحسن عند الله تعالى ونقول لهم:
سلام ناسا عزاز ما داروا فيها مطامع
بفقدوك ان جيت وما حضر فى الجامع
سلام ولدا يهز سيف الرتوش اللامع
سلام القشقشو الخد الحزين اللامع
****
فسلام عليهم وهم يحملون أرواحهم على اكفهم وسط تساقط الدانات والقنابل وعاشت العيلفون حرة أبية عصية على الغزاة
وسلامتكم
*انتقل الى الرفيق الأعلى فى القاهرة الأخ الحبيب الدكتور جعفر محمد أحمد بابكر الرجل الإنسان، طيب القلب، قليل الكلام، كثير الابتسام رحمه الله رحمة واسعة ونعزي أنفسنا وآل بابكر صالح بالعيلفون والحلفايا والخرطوم وكل أنحاء العالم.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
القاهرة / العيلفون
واتس اب 00201117499444
