🖋️ هشام الخليفة
في السودان ترضع الأمهات، أطفالهن الشعر في المهد مع الأهازيج والأناشيد التي يترنمن بها في آذانهم قبل النوم ليلاً وآناء النهار، فينشأ الطفل وقد نمت في دواخله ذائقة وجدانية يخرج منها شاعرا او متذوقا للشعر.
في هذه الحلقة، اخترت ثلاثة شعراء سودانيين القاسم المشترك بينهم هو انهم رحلوا مبكراً ولكنهم تركوا إرثاً شعرياً باهراً مازال طازجاً في أذهان الناس، كما أنهم يشتركون في الرحيل المأساوي الذي ختم حيواتهم القصيرة ولونها بلون قاتم.
أولهم هو الشاعر الضخم إدريس جماع واسمه الكامل إدريس محمد جماع. ولد إدريس جماع في العام ١٩٢٢م بمدينة “حلفاية الملوك” في أسرة من أرابيب العبدلاب، ثم ذهب إلى “الخلوة” حيث حفظ القرآن الكريم، وبعد ذلك التحق بالمدرسة الأولية، ثم الوسطى ومنها إلى “معهد التربية بخت الرضا” الذي تخرج فيه معلماً في المدارس الأولية (مرحلة الأساس).
ما لبث بعد ذلك أن ذهب مبتعثاً إلى القاهرة فالتحق بمعهد الزيتون التابع لجامعة القاهرة فتخرج فيه بدرجة “الليسانس” في اللغة العربية والتربية الإسلامية العام ١٩٥١م. عمل الشاعر إدريس جماع معلماً للغة العربية في معهد التربية شندي، ثم معهد التربية بخت الرضا.
تفتقت موهبته الشعرية منذ وقت مبكر للغاية فألف الشعر وكانت بداياته تبشر بشاعر سوف يكون له شأن وإسهام مقدر فى هذا المجال، فأصدر بعد ذلك ديوان “لحظات باقية” الذي حوى الكثير من قصائدة التي يتداولها الناس الآن.
ربطتني الظروف بالشاعر إدريس جماع منذ وقت مبكر، ليس كشاعر أو أديب، انما كإنسان وصديق للوالد الشيخ إدريس الخليفة أحمد، فقد تزاملا معاً في معهد التربية بخت الرضا، ويبدو انه قد جمعهما همٌّ واحد هو الأدب والفن، وقد اقتنى الأخ الصديق بروفيسور المقداد أحمد علي خالد المدير السابق لجامعة الرباط كتاباً عن المسرح السوداني، كتبه الأستاذ الفكي عبد الرحمن يظهر فيه الاثنان كعضوين فى جمعية الموسيقى والمسرح. كما تحدثني الوالدة فاطمة أحمد عبد الحكم “رحمها الله” بأن الشاعر إدريس جماع كان يزورهم في العطلات في العيلفون، وانه يقضي أول أيام الزيارة في “حوش الأرابيب” المتاخم لقبة الشيخ المقابلي من الشمال صلة للرحم كما كان يقول.
عندما سمع الوالد “رحمه الله” بمرض الشاعر واحتجازه فى قسم الطب النفسي بمستشفى الخرطوم ذهب لزيارته فصحبته في ذلك اليوم، وقد أدهشني ان أرى شخصاً في كامل لياقته الذهنية، جلس مع الوالد يتسامران ويسترجعان ذكريات الدراسة في معهد بخت الرضا دون بوادر شرود ذهني أو نسيان، ثم ما لبث طويلاً بعد أن خرج من المستشفى النفسي ان أصيب بمرض عضوي ألزمه مستشفى الخرطوم بحري حيث توفى فيه يوم ١٩٨٠/٣/٢٧ م.
ترك الشاعر إدريس جماع إرثاً أدبياً ضخماً ذاع صيته وعم كل أرجاء العالم العربي، ويقال إنّ البيت الذي قاله في ممرضة إنجليزية أخفت عينيها عنه بنظارة سوداء، بعد أن لاحظت إطالته النظر لها، فقال فيه:
السيف في الغمد لا تخشى مضاربه
وسيف عينيك في الحالين بتار
*****
يقال إنّ هذا أبلغ بيت قيل في الغزل في الشعر العربي.
أما قصيدته التي يبدأها بـ(أعلى الجمال تغار منا) فقد علق الأستاذ عباس محمود العقاد أن أبياتها لا يقولها عاقل، وفيها يقول:
أعلى الجمال تغار منا
ماذا عليك اذا نظرنا
هي نظرة تنسي الوقار
وتسعد الروح المعنا
****
دنياي انت وفرحتي
ومنى الفؤاد إذا تمنى
انت السماء بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنا
*****
وقد افتتح بها مؤخراً فنان العرب محمد عبده “مهرجان الرياض” الأخير، وذلك بعد أن تغنى بها قبله عبقري الغناء السوداني الأستاذ سيد خليفة.
غادر الشاعر إدريس جماع دنيانا هائماً في ملكوت الله بعد أن أثرى الوجدان والمكتبة العربية ببديع الشعر الرصين رحمه الله رحمةً واسعةً.
الثاني هو الشاعر “أبو ذر الغفاري” واسمه الحقيقي هو عبد الله الحسن ود المأذون. ولد الشاعر أبو ذر الغفارى بالحاج يوسف مربع (3) وتلقى تعليمه حتى المرحلة الثانوية فى الخرطوم بحرى ثم التحق بـ”جامعة القاهرة فرع الخرطوم” والتى تخرج فيها بدرجة الليسانس. كانت بالشاعر إعاقة بدنية إذ كانت يداه قصيرتان حتى أنهما كادا يلتصقان بكتفيه ومع ذلك كان خطاطاً ماهراً.
يقال إنه قد ورث طلاقة اللسان من والدته، إذ كانت تناديه قائلة: (يا ولدي السمح) فيرد عليها قائلاً: (وين السماحه يا حاجة؟) فترد عليه قائلة: (السماحة فى الفصاحة). كما يقال إنها كانت تستمع لشعره وتعلق عليه.
جاء لقب أبوذر الغفاري من زهده فى الحياة، إذ يقول أصدقاؤه إنه لم يتناول فى وجباته الثلاث سوى الفول والشاي لذلك كان ضعيف البنية جداً.
بدأ نشاطه الأدبي مبكراً، فكوّن جمعية أدبية فى الحي، كما كان يشارك فى الندوات الأدبية التى تقام فى جامعة الخرطوم ويقال انه كان معجباً باثنين كمال ترباس والدكتور حسن الترابي فهو (يباري) حفلات كمال ترباس أينما كانت، أما الدكتور حسن الترابي فقد قال إنه يتعلم منه النطق الصحيح لمخارج الحروف، ومع ذلك فقد كان النظام الذي تبناه دكتور الترابي هو من تسبب فى مأساته.
بدأت المأساة عندما تغنى مصطفى سيد أحمد بالقصيدة التي يقول فيها:
في عيونك ضجة الشوق والهواجس
ريحة الموج البنحلم فيهو بى جية النوارس
*****
ياما شان زفة خريفك كل عاشق أدى فرضو
والغمام الفيك راحل فى الصنوبر يلقى ارضو
يا غنانا المشتهنو يانى موعود بى زمانك
بى ارتعاش صرخة وجودك
يوم يطل ميلادو منو
لما اتوسد صباحك ياتو ليل يفصلنى عنو
******
قدم هذه الاغنية الفنان مصطفى سيد أحمد في “قاعة الصداقة” في حفلة امها الآلاف من الشباب وقد خرجوا كلهم عقب الحفل وهم يرددون كلمات الأغنية فارتج شارع النيل بالهتافات.
هنا استشعر نظام الإنقاذ بالخطر القادم من هذا الشاعر الفصيح فوضعوه تحت المراقبة. يقال انه قبل ثلاثة أيام من اختفائه المريب سحب كل رصيده من البنك واحرق مخطوطة ديوانه “أوراد النار” ثم ما لبث زوار الليل أن طرقوا بابه في ليلة صيفية حارة من شهر سبتمبر ١٩٩١م واخذوه رغم توسلات والدته التى كان يرعاها ويقيم معها وحيداً بالمنزل. منذ ذلك التاريخ اختفى الشاعر أبوذر الغفاري تماماً من الوجود كأنه تبخر فى الهواء أو صعد إلى علياء السماء. اما والدته فقد تفقدها الجيران بعد يومين من انقطاع الحركة فى المنزل فوجدوها ميتة ووحيدة رحمها الله رحمة واسعة ورحم الله الشاعر “أبوذر الغفاري” حياً أو ميتاً.
شاعرنا الثالث والأخير هنا هو الشاعر عبد الرحيم ابو ذكرى، واسمه الحقيقي هو عبد الرحيم احمد عبد الرحيم. ولد الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى العام ١٩٤٣م في “تنقاسي السوق” ولكنه تلقى تعليمه ما قبل الجامعي فى كوستي وبعد ذلك التحق بـ”جامعة الخرطوم – كلية الآداب”. في الجامعة كان له نشاطٌ سياسي وأدبي واسع مما لفت الأنظار إلى موهبته المبكرة.
غير ان النقطة الفارقة فى حياته كانت عندما أصدر قصيدة اسماها “أمير المؤمنين” تحسست منها بعض التيارات الفكرية في الجامعة، فبدأت في مضايقته، وعندما استشعر الخطر على حياته خرج من السودان إلى روسيا حيث التحق بـ”جامعة الصداقة” في موسكو وتخرج فيها ببكالريوس في الترجمة بين الروسية والعربية وقد ترجم العديد من الأعمال الأدبية لأدباء روس كبار مثل بوشكن وانطوان تشيخوف.
عاد إلى السودان والتحق بوزارة الثقافة موظفاً ولكنه ما لبث ان رجع إلى موسكو لمواصلة دراساته العليا. فى هذه المرحلة أُصيب بمرض الاكتئاب الذي كما يقول الدكتور كمال الجزولي هو السبب الذي أدى إلى انتحاره، فى فجر يوم ١٩٨٩/١٠/١٦م ألقى الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى بنفسه من الطابق الثالث عشر في البناية التابعة للجامعة والواقعة في “شارع استروفياتفا” وقد وجدت جثته متجمدة وملتصقة بالأسفلت. رحمه الله رحمةً واسعةً.
كان الشاعر قد تنبأ برحيله وذلك منذ وقت مبكر فقد جاءت قصيدته “الرحيل في الليل” معبرة تماماً عن ذلك الاحساس، إذ يرثي فيها نفسه قائلاً:
أيها الراحل في الليل وحيدا
ضائعا منفردا
حين زارتني بواكير الخريف
كان صيفى جامدا
وجبينى باردا
انتظرني
فى حفيف الأجنحة
وسماوات الطيور النازحة
وقت تنهد المدارات
وتسود سماء البارحة.
*****
الآن وبعد اندحار مليشيا الجنجويد وفرارها منهزمة من العيلفون، خرجت الصور التى تحكي كمية الدمار الهائل الذي أحدثه هؤلاء المجرمين الأوباش فى بيوت المواطنين والأعيان المدنية. ضاع شقاء العمر وتعب السنين بواسطة عصابة من المجرمين القتلة السفلة، ولكني اقول لأهلي في العيلفون اصبروا واحتسبوا و(المال عارية). ستعود بلدنا احسن مما كانت وسيعود أهلها أعزة كرام إن شاء الله، واََأقول لأبنائنا المستنفرين قواكم الله وحياكم ونصركم نصراً مؤزراً.
أما شهداؤنا من الشباب الغض الفتي فلا املك إلا ان أدعو لهم بالرحمة والمغفرة وأعالي الجنان.
قال شاعر الشعب محجوب شريف عن الشهيد:
طار بي حبلو حلٌق
فج الموت وفات
خلى الموت معلّق
فى رشة غمامة
وفى منقار حمامة
تحت الأرض بذرة
وفوق الشمس هامة
*****
وهكذا هم شهداؤنا الأبطال.
المجد والعزة لهم والخزي والعار للمجرمين القتلة الأشرار.
*****
وسلامتكم
*انتقلت إلى الرفيق الأعلى فى الإسكندرية الأخت العزيزة ليلى علي الخليفة محمد، العزاء لابنتها المكلومة عائشة ولزوجها يوسف محمد طه ولكل آل الخليفة علي والأهل بالعيلفون والعوامرة والقرضات.
*وتوفي بالإسكندرية أيضاً الأخ والخال عبد المنعم حسن. العزاء لأبنائه شقيقاته عصام وإخوانه وأبناء عبد السلام.
*وتوفي بالإسكندرية كذلك الأخ الفاتح أحمد الأمين عدلان. العزاء لأبنائه وبناته ولكل آل عدلان بالعيلفون والقوز والحفرة والدبيبة.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
*واتس اب 00201117499444