ضرب السودانيون رجالاً ونساءً، أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام ومجابهة الظلم والظالمين بالبنان وبالسنان سواء أكان الظالم مستعمراً غازياً أم مستبداً من أبناء جلدتهم. وتروى في ذلك حكايات وروايات لنساء ورجال قدموا أرواحهم رخيصةً فداءً للوطن.
نستهل قائمة الشرف هذه بامرأة خلدت اسمها فى سِجل الخالدين ولكن حظها من الشهرة كان قليلاً وهي الأميرة “مندى بنت السلطان عجبنا” ووالدها هو “السلطان عجبنا ابن اروجا سبأ”، السلطان الثالث عشر لقبيلة (النيمانغ) نوبة الجبال في منطقتي “سلارا” و”زالنجى”.
نشأت “الأميرة مندى” فى بيت السلطان فتعلمت فنون القتال والنزال، ولكنها عاشت حياة طبيعية، فتزوّجت وأنجبت حتى تغيرت حياتها تماماً عندما بدأ والدها في مقاومة الإنجليز الغزاة، إذ جمع حوله مقاتلي النوبة الأشداء وهاجموا القوات التي أرسلها الانجليز إلى منطقتهم لإخضاعها لهم وقتلوا قائد القوة الإنجليزي. هنا ثارت ثائرة المستعمر فقرر إخماد هذه الثورة قبل أن يستفحل أمرها وتنتشر فى بقية أجزاء البلاد.
هذه المرة أرسل قوة أكبر عدداً وعتاداً ومزودة بأحدث الأسلحة النارية. استطاعت القوة أن تحاصر السلطان تماماً، وتمنع عنه مصادر المياه.
عندما سمعت “الأميرة مندى” بذلك قامت بضرب “القرعة” – مصنوعة من نبات القرع الجاف – على الأرض وهي علامة عند النوبة على بداية المعركة ثم صرخت صرخات الحرب فتجمع حولها مقاتلو قبيلتها استعداداً للقتال. ربطت “الأميرة مندى” ابنها على ظهرها وحملت بندقيتها بيمينها وسيفها بيسارها وأسرعت لنجدة والدها واقتحمت ميدان المعركة ببسالة وهي تزغرد لتحمس رجال قبيلتها للقتال. وبرغم أن العدو قد أصاب ابنها بطلقة فاستشهد على ظهرها ولكنها لم تهن ولم تلِن حتى استطاع الإنجليز بما لهم من قوة عددية كبيرة ونيران فتاكة من اعتقال والدها وساقوه إلى “الدلنج” وأعدموه هنالك مع “كلكون” أقرب أعوانه في العام ١٩١٧م، فرجعت الأميرة مندى إلى أهلها ولكنها كانت مكللة بهالات الفخار والشجاعة لما بذلته من جهد في مقاومة الغازي، فخرج أهلها لمقابلتها بالطبول والأهازيج وهم يتغنون ويقولون:
كورو كونجا كو دون دالي
“مندى” كورو كونجا دون دالي
اووو دالي… دالي
*****
وقد أصبحت هذه الأهزوجة واحدة من “الجلالات” التي تتغنى بها “قوة دفاع السودان” تقديراً وإكراماً لهذه المرأة الشجاعة وتعتبر هي “الجلالة” الوحيدة التي قيلت تعظيماً لامرأة على الإطلاق.
انتقلت الأميرة مندى إلى رحمة الله في الكلاكلة العام ١٩٨٠م بعد أن سطرت اسمها فى سجل التاريخ.
ثاني هؤلاء الفرسان هو الحاج مضوي محمد أحمد “شيخ المناضلين” كما كان يطلق عليه الناشطون السياسيون. ولد الحاج مضوى محمد أحمد فى العيلفون العام ١٩١٥م ولكنه نشأ يتيماً تحت كفالة أهله بالعيلفون فدرس القرآن فى “خلوة الشيخ ود شنان”، في مسيد الشيخ إدريس ابن الأرباب، ولكن ما لبث أعمامه أن ضموه إليهم بالخرطوم وألحقوه بالجامع الكبير لإكمال دراسته، غير أنّ قرب الجامع الكبير من السوق العربي أثار فى نفسه حب التجارة والبيع والشراء فسرعان ما (انغمس) فى حياة السوق وبدأ بداية بسيطة فى تجارة المواد التموينية مع عمه الحاج أدهم بابكر. ما لبث العمل أن توسع فاقتحم تجارة الإسبيرات، فكان من أوائل الذين عملوا فى هذا المجال حتى أصبح علماً من أعلامها.
مع التهاب المشاعر الوطنية فى البلاد انضم الحاج مضوي إلى تيار الاستقلال مع الزعيم إسماعيل الأزهري وأصبح فى ما بعد أحد أعمدة الحزب وركائزه، وقد جر عليه ذلك الويلات خصوصاً فى عهد نميري، حيث تم اعتقاله مرات عديدة بحجة مقاومته لنظام مايو، أبرز هذه الاعتقالات كانت عقب ندوة في “جامعة الخرطوم” تحدث فيها مهاجماً “الاتحاد الاشتراكي” فتم اعتقاله والتحفظ عليه، ثم ما لبث أن تم اعتقاله عندما شارك فى أحداث شعبان، فقد تم إخفاء الأسلحة فى مزرعته بمنطقة “الباقير” وهنا تعرض للسجن ثم المحاربة فى رزقه من قبل السلطات، ولكن كل ذلك لم يثنه عن النضال فى مواجهة الظلم والظالمين وتجلى ذلك فى محاربته (سلمياً) لنظام الإنقاذ. كان للإنقاذيين (تار بايت) مع الحاج مضوي، إذ أنه كان قد فاز على زعيمهم الدكتور الترابي فى دائرة “ألتي والمسيد” في عهد الديمقراطية الثالثة، فهتفت جماهير الدائرة (التور غلب الدكتور) وكان (التور) هو رمز المرشح الحاج مضوي محمد أحمد.
كان الحاج مضوي زائراً دائماً، بل من أوائل زوار “بيوت الأشباح” وكانوا يعاملونه هناك معاملة (خاصة)، برغم أنه كان شيخاً يقترب من عامه الثمانين. يحكي هو فيقول إنّهم كانوا يضعونه فى زنزانة ضيقة بحيث لا يستطيع الحركة، وفي الليل كانوا يسلطون عليه أضواءً باهرة ثم يشغلون موسيقى صاخبة لمنعه من النوم، ومع ذلك كان ينام كالطفل الغرير بل أنه كان يمازح حراسه عندما تنقطع الموسيقى فيطالب بتشغيل (الديسكو الإسلامي).
انتقل إلى الرفيق الأعلى العام ٢٠٠٩م وبذلك انطفأت شعلة وهاجة وكتلة ثائرة من النضال المتواصل من أجل الوطن. لازلت اذكر ذلك اليوم فقد حرصت على تسجيله بالفيديو فرأيت مشهداً لم أره منذ وفاة السيد علي الميرغني في الستينات فكان السودان كله قد جاء لوداع هذا الرمز الوطني الكبير رحمه الله رحمة واسعة.
من المشاهد التي لا أنساها هو مشهد الفنانة “حواء الطقطاقة” وهي تحمل كيس الدواء معها، فقد خرجت من المستشفى عندما علمت بوفاة الحاج مضوي وأصرت على المشاركة فى التشييع برغم أنها كانت محتجزة للعلاج.
أما السيد محمد عثمان الميرغني، فقد أجابني عندما سألته عن إحساسه الآن وقد كان على خلاف مع الحاج مضوي، فقال لي ما معناه إننا اختلفنا على الحزب ولم نختلف على الوطن، وهكذا كان كبار السودان كباراً عندما يتفقون وعندما يختلفون.
القصة التالية عن فارس مختلف هو الشهيد أكرم الفاتح أحد شهداء حركة رمضان فى عهد الانقاذ. ولد الشهيد أكرم العام ١٩٦٢م فى أسرة متعلمة فوالدته هى السيدة نفيسة المليك وقد تلقى تعليمه كله في مدينة أم درمان وقد كان متفوقاً فى دراسته، خصوصا فى مادة الفيزياء وقد أحرز اعلى درجة بين كل الممتحنين فى امتحان الشهادة السودانية. التحق بسلاح الطيران برغم اعتراض والدته على ذلك ولكن شجاعته وحبه للطيران تغلبا عى اعتراض الأسرة. عندما تعاظمت المعارضة لنظام الإنقاذ، انتظم مع زملائه الضباط الذين بدأوا يتجمعون لمناهضة النظام بالقوة. أوشكت حركتهم على النجاح لولا أن وشى بهم احد الجنود الذي حاول احد المنظمين للحركة ضمه فى آخر لحظة، ولكنه سارع بإبلاغ مدير الاستخبارات العسكرية. تم اتخاذ التحوطات اللازمة وأُجهضت المحاولة الانقلابية.
اُعتقل الضباط المشاركون ووضعوا في “السجن الحربي” بأم درمان ما عدا “أكرم” الذي لم يرد اسمه في التحقيقات، ولكن فوجئ المعتقلون بتسليمه نفسه للسلطات طوعاً وعندما سألوه لماذ فعل ذلك؟ قال إنني خفت ان تموتوا وأنتم تعتقدون أنني قد خنتكم…. وهكذا يموت الرجال واقفين!!!
قال الشاعر:
إذا كشف الزمان لك القناعا
ومد إليك صرف الدهر باعا
فلا تخشى المنية والتقيها
ودافع ما استطعت لها دفاعا
*****
وبعد هذا السرد الممتع لسير رجال عظام سطروا أسماءهم بأحرف من نور في تاريخ السودان ننتقل إلى زاوية مختلفة قليلاً. أثناء بحثي في موضوع “الهمباتة” تفاجأت بوجود امرأة بينهم (همباتية) لها شأن عظيم!! اسمها “فاطمة” ووالدها هو “المك حسب الله” احد (ائمة) الهمباتة في منطقة “فتاشه” جنوب الخرطوم. عاشت فاطمة إبان عهد “السلطنة الزرقاء” عندما انتشرت ظاهرة الهمبتة، وبحكم وجودها وسط أسرة من الهمباتة، فقد نشأت وهي تركب الخيل وتجيد استخدام السلاح الناري والسيوف وبرغم وجود أربعة أبناء ذكور، فقد كانت هي القائد والرائد لهذه الفرقة.
كانت عندما تسمع صوت قافلة إبل من بعيد تصيح في إخوانها: (كلكوا الخيل) أي أهمزوها بالسيوف فتنطلق الخيول مسرعة للقاء القادمين، ويقال إنّ من مقولتها هذه جاءت تسمية منطقة “الكلاكلة”.
والآن عزيزي القارئ أنت وشأنك، إما أن تعتبرها فارسة أو تعتبرها مجرمة نهّابة، أما من اعتقلها فلم يسلمها للسلطات وإنما أبقاها معه لتعلم أبناءه الفروسية وركوب الخيل!!!
القصة الأخيرة أيضاً قصة غريبة، فقد سمعنا عن “ود أم بُعُلٌو” وكنت أعتقد أنه شخصية من الخيال، ولكنني اكتشفت أيضاً أثناء بحثي في الأدب الشعبي انه شخصية حقيقية عاشت فى المنطقة بين “الزيداب” و”العالياب” في الفترة (١٨٣٩م – ١٩٠٣م). تأخر الطفل فى النطق فأطلقت عليه أمه اسماً غريباً هو “بُعُلٌو” فأصبحت هي “أم بُعُلٌو” ثم تغير اسمه واصبح “ود أم بٌعُلٌو” ثم ما لبث الناس ان نسوا أسماءهم الحقيقية.
كانت “أم بُعُلٌو” امرأة مخيفة يتجنبها الناس، قاسية للحد البعيد وغيورة جداً، ويقال إنها قد قطعت عضو الذكورة من زوجها حتى لا يتزوج عليها فقام الزوج بقتلها انتقاماً منها ثم انتحر. وهكذا نشأ الصبي وقد تمكنت منه العقد النفسية خصوصاً بعد أن نبذه الناس وأصبحوا يتحاشونه، فهرب من المجتمع واتخذ من المساكن المهجورة سكناً بالنهار يخرج منها ليلاً يبحث عن الأطفال ليقتلهم انتقاماً لطفولته البائسة المشردة. أثار ذلك الذعر بين الناس، خصوصاً الأطفال، فأصبحوا لا يخرجون ليلاً خوفاً من “ود أم بُعُلٌو” الشرير.
هنا قام الناس بمطاردته من مكان لمكان بعد أن استفحل شره وأخيراً حاصروه في “خرابة” وأحرقوه داخلها ولكن بعد انطفاء الحريق لم يجدوا آثار جسده مما جعل الناس يتخوفون ويترقبون ظهوره في أي وقت!!!
وهنا أدعو الله أن يكون هذا المخلوق الخرافي قد تناسل وأنجب جيشاً جراراً يسلطه الله على هؤلاء الجنجويد القتلة السفلة فيفنيهم ويقطع دابرهم، فالقاتل يُقتل ولو بعد حين.
أزجي التحية من هنا للقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والمستنفرين وهم ينتقلون من نصر إلى نصر حتى يُطهِّروا الأرض من دنس المرتزقة الأشرار، وأخاطب أبناءنا المستنفرين فأقول:
واحدين في البيوت مِكبِرين عمٌامُن (عمائمهم)
عدموا الحيلة والزول أب عوارض لامُن
وواحدين صنددوا وختوا الأسد قدامُن
طبقوا العودة للماسكات عِداد أيامُن
******
و(الماسكات عٍداد أيامُن) هن الأمهات والزوجات والبنات اللائي ينتظرن عودة أبناءهن المستنفرين، مظفرين، غانمين بعد النصر المؤزر على القتلة المجرمين والله أكبر ولا نامت أعين الجبناء.
وسلامتكم
انتقل إلى الرفيق الأعلى مبكياً على شبابه بالقاهرة ابننا خالد بركات عبد الله بابكر “الداس”. العزاء للأخ عثمان وأسرته المكلومة بالعيلفون والقاهرة وكل أنحاء العالم.
واتس اب 00201117499444