لا ترجعوا بأكفٍ فارغة

هشام الخليفة

دمر الأوباش المجرمون في هذه الحرب، البنية التحتية للدولة، مرافق الكهرباء والمياه ومقار الدولة الرسمية والمدارس والجامعات وحتى دور العبادة -المساجد والكنائس- لم تسلم من دنسهم، ثم نهبوا المواطن المغلوب على أمره ممتلكاته من سيارات ومنقولات ونقود وذهب وتركوه صفر اليدين.
ولكن من لطف الله عليه انها لم تكن كلها شرا مستطيرا، انما جاءت بمنافع كثيرة ايضاً، فمع النزوح إلى دول الجوار بدت الحوجة الملحة لدى ارباب الاسر لتوفير الطعام والدواء والكساء ومستلزمات الحياة الاخرى للأسر والأبناء فانطلقوا يضربون في الأرض يبحثون عن ما يسد الرمق خصوصا وان هؤلاء المجرمين نهبوا كل شئ.
اضطر الكثيرون تحت ضغط الحوجة إلى امتهان مهن ليست مهنهم الأصلية واذكر هنا بعضا منها.

كنت اتمشى يوما في الشارع الذي اعيش فيه فلفت نظري محل صغير ولكنه انيق جدا بديكور خارجى جذاب ثم ما لبثت ان شممت رائحة (عطرة) تنساب من داخله فتفتح الشهية. دلفت إلى الداخل فاستقبلني بابسامة انيقة رجل في اواسط الأربعينات بنظارة طبية هى عنوان التأهيل العلمي الرفيع. قدم لى الرجل كرسيًا جلست عليه ثم بدأنا بالطريقة السودانية فى التعارف. علمت منه انه من أسرة كبيرة ومعروفة على نطاق السودان فيها العلماء الاجلاء ورجال الدين ثم علمت منه انه يحمل مؤهلا علميا رفيقا هو درجة الدكتوراة وكان يعمل فى احدى الجامعات المرموقة وعلاوة على ذلك فهو يقدم برامج متخصصة فى الإذاعة والتلفزيون ويظهر ذلك جليا فى طريقة حديثه واسلوبه الرشيق وحركاته وسكناته. يقول لى الدكتور انه تواجه عند وصوله أرض النزوح بأنه مطلوب منه إطعام أفواه جائعة وايوائها فى بلد ليس له فيها أقارب الا من نزح معه. لم يتلفت كثيرا ولم يحتار وبما فى يده من مال قليل افتتح محلا لبيع الفول والطعمية يساعده ابناؤه بالتناوب.
يقول انه وجد تشجيعا من الأسرة خصوصا وان المشروع بدا يضخ لهم مالا معتبرا مكنهم من مواجهة متطلبات الحياة دون الحاجة لاحد. صرت امر به كل يوم لاشتري الطعمية الشهية وقبل ذلك امازحه ابيات شعر حلمنتيشية قالها شاعر مجهول فى مدح الطعمية تقول كلماتها:
رائحة الفلافل في فطورى
احب إلى من ريح العطور
فكيف اذا أتاك بصحن فول
فذلك مثل لحم فى قدور
رخيص السعر ينفع كل وقت
ويصلح للغني وللفقير
فتبًا للرجيم فقد تهادى
وهذا الجوع عذب لى ضميرى
فلست اريد ان أحيا وسيما
وأهلاً بالدهون على سريري
*****
كنت امازحه بهذه الأبيات الحلمنتشية كلما مررت به لأخذ (الراتب اليومي) فيضحك ملء شدقيه وهو (يرمى) الطعمية بهمة ونشاط، ثم ما لبث مع نزوح الجامعات السودانية للخارج ان وجد وظيفة مناسبة فى احداها التحق بها فكفته شر (النيران المشتعلة)، غير أنني متأكد جداً انه بعد الرجوع للبلد إن شاء سيفتتح مشروعاً مناسباً بالإضافة لعمله الأصلي وهذه واحدة من فوائد النزوح.

القصة التالية شبيهة بالأولى فقد كنت اشتري حصتي اليومية من (الخبز والخبائز) من مخبر فى المنطقة القريبة من سكني نوعاً ما، ولكنني اكتشفت بعد فترة ان بعضهم قد افتتح مخبزاً أقرب لي من الاول. دخلته فوجدت شاباً سودانياً انيقاً جداً أناقة لا تلائم المكان برغم انه مكان حديث بديكور فخم فقط أحسست ان هذا الشخص غير (متجانس تماماً) مع المكان. بمرور الأيام تعارفنا وقد علمت منه انه رجل اعمال كان يستورد المواد التموينية بالكونتينرات، ثم فجأةً نشبت الحرب و(فجعة) تجمع اللصوص من كل حدب وصوب وهجموا على المستودعات فتركوها قاعاً صفصفاً!!!. تذكرت الفيديوهات التي انتشرت فى بداية الحرب لأناس يقتحمون المخازن فى المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري وهم يحملون كل شئ تقريباً، صفوفاً متراصة من البشر تنهب وتسرق دون وازع من خلق ولا دين ولا ضمير.
يحدثني هذا الرجل فيقول لي إنّه فقد ما قيمته عشرات الآلاف من الدولارات من البضائع التى كان قد استوردها حديثاً. كانت صدمة قاسية بالنسبة له ولكنه سرعان ما آفاق وها هو يبدأ (from square one) اى (من المربع الأول) وهو متفائل جداً بأنه سيعود أقوى مما كان وبالتأكيد انه بعد العودة ستدفعه الخبرات التى اكتسبها فى صناعة المخبوزات إلى إنشاء مصنع ورب ضارة نافعة.
هذا المخبز ايضا كلما مررت به اتذكر قول ابن الرومي:
وان انسى لا أنسى خبازاً مررت به
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها فى كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
الا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجر
*****
أما النساء هنا فأمرهن عجب، ففي كل منحنى وعلى كل رأس شارع تجد امرأة سودانية وقد وضعت أمامها صينيتين واحدة للكسرة والثانية عليها الروائح السودانية والعطورات والبهارات تعرضها للمارة. وبما أنني من (مدمني) الكسرة فقد ارتبطت بامرأة تجلس على رأس الشارع الذي أعيش فيه وأغشاها يوميا تقريبا. هذه المرأة نمت بيني وبينها علاقة إنسانية رائعة. علمت منها ان موطنها الأصلي هو المنطقة الملتهبة الآن فى غرب السودان وهي متزوجة، يعمل زوجها تاجرا فى سوق المدينة التي يعيشون فيها ولكنه آثر البقاء، يحرس تجارته وبضاعته ولها ثلاث صبايا خرجن معها فى رحلة النزوح كلهن فى الجامعات، إحداهن فى إحدى كليات القمة. تصحو هذا المرأة المكافحة من (دغش الرحمن) فـ(تعوس الكسرة) بهمة ونشاط ثم تحملها إحدى بناتها بالتناوب لبيعها للزبائن والآن عندما انتقلت الجامعات للخارج التحقت كل واحدة منهن بجامعتها وبقيت الأم تقوم بمجهودين الصناعة والبيع. لم أجد إصراراً على النجاح والفلاح اكثر من هذا وقد أخبرت الام والابنة أنني وقد أوشكت الابنة الوسطى على التخرج أنني سأذهب معها يوم التخرج وسأصعد معها على المسرح لاستلام الشهادة، برغم أننا نعيش فى مدينة بعيدة نسبياً من المدينة التى تدرس بها هذه الشابة وذلك تقديراً لها ولوالدتها ولاجتهاد هذه الأسرة المكافحة والتي تعلمت كلها حب العمل والإخلاص فيه، ولابد ان يكون ذلك زاداً لهم فى المستقبل.
وأيضاً كلما مررت بهذه المرأة العظيمة وشممت رائحة العطر السوداني النفاذة اتذكر قصة “سجاح التميمية” و”مسيلمة الكذاب” وكلاهما قد ادعى النبوة. يقال ان “مسيلمة الكذاب” قد استشعر خطر “سجاح التميمية” فقومها كثيرون وهم ذوو بأس شديد ففكر ان يتزوجها وينال الحسنيين. احتال على ذلك بأن دعاها للمناظرة فوافقت. امر اعوانه ان يوقدوا المجمر فإن المرأة كما قال اذا شمت الطيب ذكرت الزواج وقد كان. وافقت “سجاح” على الزواج من “مسيلمة” وقد جعل مهرها ان اعفى قومها من صلاتي العصر والعشاء فأصبحوا يصلون ثلاث صلوات فقط كأنه هو من فرض الصلاة وهذه من الغرائب!!!!

ونختم بقصة طريفة لرجل اقابله يومياً تقريبا عند “ست الكسرة” نتزود منها ما يقينا شر البرد القارس وكعادة السودانيين، تبادلنا أطراف الحديث فعلمت منه انه قد افتتح صالوناً للحلاقة في المنطقة وانه يشرف عليه فقط فمهنته الأصلية هى فى القضاء فقد درس القانون فى إحدى الجامعات العريقة ثم التحق بوظيفة حكومية مرتبطة بالقانون. كانت اكثر ممازحاتى معه عن رأى بعض الفرق الدينية فى الحلاقة والحلاقين فقد حرّمها بعضهم، بل ان بعض المتنطعة منهم قد حرموا الزواج من الحلاق !!! غير ان الأزهر الشريف وهى مؤسسة دينية لها تقديرها واحترامها لدى عامة المسلمين، فإنها لم تر بأساً فى ان يمتهن الشاب الحلاقة على ان يلتزم فيها بالضوابط الشرعية من تشذيب اللحى وتركها معفاة ونتف الوجه بالخيط ولا اعرف بم سيستفيد صاحبنا القانونى هذا من مهنته الجديدة ولكن ربما تفتتح زوجته صالوناً للتجميل والله اعلم.
قال الإمام الشافعي:
تغرب من الوطان فى طلب العلا
سافر ففى الأسفار سبع فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
****
غير ان احد اعمامنا (رحمه الله) قد اضاف إليها فائدة ثامنة وهى (اكل الكباب)، فيبدو انه قد تذكر اول مرة يتذوق فيها طعم الكباب ولم نكن نعلم آنذاك أنه قد بدأ رحلة الزهايمر الغامضة!!!!
بعد تحرير العيلفون ودخول الشرطة إليها، ثم تصوير المنهوبات التي جمعوها بمعاونة المستنفرين (جزاهم الله عنا كل خير)، هالنى ما رأيت من المنهوبات المكدسة بالمئات وهالنى اكثر بل آلمني جدا ان جل ممتلكات المواطنين قالوا انها قد نهبها غرباء استوطنوا بلدنا آويناهم وعاشرناهم بالمعروف، أكلوا وشربوا معنا ونهلوا من خيرنا ولكنهم قابلوا كل ذلك بالجحود والنكران ولكن (الله في)!!!!
ستنهض بلدنا كلها من كبوتها وسيبنيها ابناؤها بسواعدهم القوية يرفعون راية بلادهم عالية خفاقة بإذن الله ولا نامت أعين الجبناء وسلامتكم.
*انتقلت الى الرفيق الأعلى بالجريف غرب كريمة خالنا محمد علي أحمد عبد الحكم “أب دقن” فذهبت مبكياً على شبابها. لها الرحمة والمغفرة. عزاؤنا للخال “أب دقن” مع أمنياتنا له بالشفاء العاجل وللاخ ياسر واخوتها ولآل عبد الحكم وللاهل بالجريف غرب والعيلفون ومصر وكل أنحاء العالم.
*وانتقلت إلى الرفيق الأعلى بالقاهرة ابنتنا فدوى ابراهيم الامين صبير طير من طيور الجنة خرجت منها كما دخلتها طاهرة نقية. العزاء لاختها المكلومة سيدة “توته” ولخالها البرفيسور مقداد ولأبناء المرحوم علي ولخالاتها ولآل الفادنى وآل صبير بالعيلفون والفادنية وكل أنحاء العالم.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
القاهرة / العيلفون
*واتس اب 00201117499444

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.