إلى صديقي دسوقي الوقيع
تعرف يا جميل الروح، في الزراعة دي اتعلمت حاجات رائعة من تراكم خبرات الأجداد. الزراعة هي عالم الرب تدخله وكأنك داخل إلى الملكوت لتشاهد قصة الخلق كل مرة من جديد. أجمل ما تعلمته أن شجرة الليمون عندي إذا تأخر أوان ازهارها فعلي أن أقوم (بتعطيشها) ومنع السقيا عنها لفترة تصل إلى شهر أو شهرين.
هذه العملية تثير غريزة البقاء في شجرة الليمون فتبدأ في الإزهار وانتاج الثمار حتى تحفظ النوع. هي فكرة شاعرية حينما تحاول شجرة الليمون أن تهدي ثمارها للعالم قبل أن تغادره. طبعًا بمجرد بدء الإزهار تعود للري المنتظم.
فكرة الحرب في حد ذاتها فكرة غاية في البشاعة مهما كانت الأهداف السامية أو الوضيعة التي تقوم من أجلها الحروب. لكنها مثل فكرة تعطيش شجرة الليمون تدفعنا للتشبث بالحياة ولهذا كانت الشعوب التي تخرج من دمار الحروب هي الأقرب للنهضة بأسرع من غيرها مثل ألمانيا التي بنتها النساء بعد الحرب التي مات فيها ملايين الرجال أو مثل اليابان بعد دمار هيروشيما أو مثل فيتنام التي أجبرت الصلف الأمريكي أن يلملم أذياله ويهرب من سايجون تاركاً كل العملاء الذين وقفوا إلى جانبهم في الحرب.
بعد حرب فيتنام أصاب أطفالها نقص حاد وسوء في التغذية اضطرت معه منظمة رعاية الطفولة إلى إجراء دراسة حول الأسباب والتوصل لمعالجة مناسبة وقد تقرر لها برنامج بقيمة عشرة مليارات دولار كان من المستحيل جمعه في ظل الغضب الأمريكي على شرفهم الضائع في سايغون.
رافق الفريق رجل لاحظ أن هناك أطفالاً أصحاء بين مجموع الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، فوجد أنّ أمهات الأصحاء يقمن بتقسيم حصتهم من الأرز إلى ست وجبات ويقمن بإضافة البطاطا البرية التي تنمو تحت روث الجاموس ولا يأكلها الناس عادة وبعض النباتات الأخرى لغذاء الأطفال. قام الرجل بتعميم التجربة في كل القرية فأدت لنتائج باهرة ومن ثم تم تعميم التجربة في كل فيتنام وانتهت المشكلة دون أن تحتاج الدولة لانتظار الدعم الدولي وشروطه.
لم تكتفِ فيتنام بذلك وإنما أخذت المفهوم وطبقته في مجالات أخرى. أصبح المفهوم يسمى استراتيجيات النقاط المضيئة ويقوم على أنه بدلاً من البحث عن أسباب المشكلة أبحث عن أفضل الممارسات التي تتجاوز المشكلة نفسها إلى رسم واقع ومستقبل أفضل. نفذته فيتنام في زراعة الأرز وبحثت عن المبدعين من المزارعين ووجدت أن بعضهم يزرع الأرز في موسمين بدلاً من موسم واحد في العام (في الشمالية عندنا مزارعين بيزرعوا القمح مرتين) والذين ينتجون أعلى من غيرهم.
طبقت فيتنام البروتوكول الناتج من النقطة المضيئة في كل البلاد ونتج عنه أنها تحوّلت خلال عشرة أعوام إلى الدولة الأولى المصدرة للأرز في العالم.
أشكرك وأنت تسابق قبح الحرب لتزرع بسمة أمل ونقطة ضوء في العتمة. نعم يا صديقي سينهض السودان من ركام الحرب وسنبحث عن كل نقاطنا المضيئة ونرمي كل القبح والكسل والركون إلى العادي في حياتنا إلى رسم المستقبل. نحن كمجتمع أقوى من السلطة وأقوى من حروبها والحروب التي تقوم حولها. وستعود كل طيورنا المهاجرة لتبني الأعشاش حين يزهر البرم في مواسم الأفراح المتجددة.
*نشر المقال اول مرة في ١٧ مايو ٢٠٢٣م وإعادة النشر تتزامن مع استعادة رمز سيادة السودان القصر الجمهوري