يظل جوهر الإنسان نقياً طاهراً مهما كان ما حوله ومن حوله مغايراً في الطبع والأخلاق، وتزداد قوة لمعان المعدن النفيس بازدياد نيران الفساد والإفساد تحته وفوقه، وعندنا من الدلائل على ذلك الكثير وما سنورده هنا أمثلة فقط.
يحكي لي أحد الزملاء ممن عملت معهم انه فى بداية حياته العملية تم تعيينه فى إحدى مدارس العاصمة الثانوية وقد كانت ملحقة بالمدرسة داخلية للطلاب وكان يشرف على الداخلية أربعة معلمين يُقيمون فى غرف ملحق بالمدرسة. كان المعلمون من أبناء الريف يفدون إلى المدينة لأول مرة وقد بهرتهم حياة المدينة الصاخبة، فقد كانت الأندية الليلية تنتشر في طول المدينة وعرضها والملاهي والديسكوهات تستقبل الآلاف، السمار يتدفقون إليها من كل مكان مع مغيب شمس كل يوم.
انغمس المعلمون فى هذه الحياة الصاخبة (في حدود) إلا واحداً كان يشاركهم كل شئ ولكنه لم يكن يرافقهم إلى أماكن لهوهم وصخبهم. كان ذلك الأستاذ مداوماً على صلاته لا يشغله عنها شاغلٌ ولا يصرفه صارفٌ، وبرغم أنه كان مثلهم في كل شئ، السن والمظهر والتعليم، إلّا أنّه كان مختلفاً في سلوكه وعلاقته بربه.
يقول محدثي، إنّه قد اغترب مع هوجة الاغتراب والموجة التي دفعت الآلاف من الشباب خارج البلاد مع بداية السبعينات، وإنّه عندما رجع في أول إجازةٍ، قصد المدرسة التي كان يعمل بها، فوجد كل شئ على حاله إلّا فقد بدت عليه علامات التغيير. بدا أكثر ميلاً للصّمت، حاملاً المسبحة بيمينه يتمتم بالاستغفار والدعاء لا يتوقّف إلّا ليرد على سؤال وفي العام الذي يليه عرف انه قد غادر إلى قريته حيث استقرّ هناك ليعمل بالزراعة مهنة أهله وبدأ ينقطع للعبادة. في إحدى الإجازات بعد أن تزوّج واستقرّ، جاءته زوجته لتطلب منه مبلغاً من المال وتخبره أنها ومجموعة من النساء قد استأجرن حافلة وأنّهن في طريقهن إلى إحدى القرى، حيث ظهر أحد الشيوخ الذي عرف عنه انه يعالج الأسقام والأمراض بالرقية الشرعية، وكانت هذه عادة معروفة عند النساء يقصدن كل شيخ صاحب طريقة طلباً للبركة والشفاء. تقول زوجته عندما عادت وهي في قمة الدهشة والانفعال أن الشيخ سألها عن اسمها واسم زوجها وعندما عرف أنّها زوجة فلان ابن فلان بانت على ملامحه علامة السعادة والفرح، وانفرجت أساريره بابتسامة عريضة وأخبرها أنّ زوجها صديق عزيز وأنهما قد تزاملا معاً عندما كان معلماً قبل أن تفيض عليه الفيوض الإلهية فليتزم الصراط المستقيم.
بدأ صاحبنا منذ ذلك الحين يتسقط أخبار صديقه، فعلم أنّه قد تعمق في طريقه الجديد وبنى مسيداً ضخماً في قريته يَـؤمُّـه الناس من كل مكان، ينهلون فيه العلم الشرعي، ويتدارسون القرآن ويتدبّرونه، بل بدأ يقصده مسلمون من خارج السودان، حيث ذاع صيته واشتهر بالصلاح والفلاح حتى جاءه خبرٌ قبل فترة قصيرة بوفاة الصديق الذي تحـوّل من معلم للرياضيات لمعلم في الشؤون الشرعية والفقهية رحمه الله رحمةً واسعةً، ومنذ ذلك الحين صار يتخيّر أصحابه فهم النور الذي سيقوده إلى طريق النجاة وتمثل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما خاطب أحد الصحابة قائلاً: (يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك)..
القصة الثانية حدثت في أسرة أعرفها تماماً، كان رب الأسرة موسراً جداً يعمل بالتجارة، يسافر كثيراً منشغلاً بتنمية تجارته واستثمار أمواله التي كانت تنمو وتزداد كل آنٍ وحينٍ. كان لهذا الرجل أبناءٌ وبناتٌ كثرٌ، عمل جهده على تعليمهم في أفضل الجامعات والمراكز العلمية فتخرجوا بشهادات عالية فى مجالات شتى، إلّا واحداً قطع دراسته فى مراحل مبكرة واتجه نحو العمل التجاري ولكنه لم يصب فيه نجاحاً يُذكر، ولكنه حافظ على الحد الأدنى من الحياة الكريمة بعد أن استقل عن والده. كان هذا الأخ دون الآخرين مستقيماً فى حياته الشخصية، لم يقرب المحرمات أبداً، بينما انغمس إخوانه فى كل ما لذّ وطَابَ من مباهج الحياة ومن الطعام والشراب حلالها وحرامها.
دارت الأيام دورتها وتكالبت المحن والإحن على الأب، فتدهورت تجارته وبدأ يفقد ماله، ثم ما لبث أن تحاوشته الأمراض والعلل فسقط صريعاً مريضاً لا يقوى على الحراك. انشغل عنه الأبناء بما هم فيه من حياة زاهية وملاهٍ لاهية، إلّا ذلك الابن المختلف، فقد تفرّغ تماماً لملازمة والده، بل اكتفى بعمل بسيط يدر عليه دخلاً بالكاد يغطِّي نفقاته ونفقات والده الحياتية، وظل الأمر هكذا حتى توفي الأب، والأبناء متفرقون كُـلٌّ فى مكان، بينما لم يكن معه حين الوفاة إلّا صاحبنا. الغريب فى الأمر أنّ الله حبا ابنه هذا بأبناء نجاب شقوا طريقهم فى الحياة بقوة حتى أصبحوا من رموز العائلة اللامعة. وهكذا يجازي الله الإنسان إن لم يكن فى نفسه ففي ولده إبان حياته ليرى بره وإخلاصه لوالديه بعينه.
القصة التالية حكاها لي صديق عن والده الذي يمتهن مهنة بسيطة جداً. يقول الوالد إنهم كانوا مجموعة من أبناء الأسرة فى سن واحدة يذهبون إلى مدرسة واحدة ويلهون ويلعبون عقب نهاية دوام المدرسة في (حوش) الأسرة الكبير، وفى المساء يجتمعون للمذاكرة في مكان واحد أيضاً.
كانوا كلهم من الأشقياء (المساخيط) إلّا واحداً عُـرف بالجدية التامة حتى في لهوه الذي لم يكن يتجاوز فيه الحدود، وبشقاوة الأطفال كانوا يحاولون بقدر الإمكان صرفه عن المذاكرة فكانوا يطفئون اللعبة (لمبة الجاز القديمة) حتى ينصرفوا عن المذاكرة فيلهون ويلعبون، غير أنّ كل ذلك لم يكن يجدي معه نفعاً، بل كان يزيده إصراراً على مواصلة المذاكرة وحفظ الدروس، فكانوا عندما يرون إصراره على ذلك ييأسون من إغوائه فيتركونه وحاله. هكذا استمر الأمر زماناً طويلاً، تدرّج فيها أخوهم فى مراحل الدراسة المختلفة، حتى تخرّج في الجامعة، بينما تساقط رفاقه في الطريق واكتفوا بمهن بسيطة وكوّنوا أسراً بسيطة، بينما انتقل صاحبهم إلى مركز اجتماعي عالٍ في القيمة الأهمية، وتبوأ أعلى المناصب. وهكذا لم تثنه محاولات أقرانه لإلهائه وإبعاده عن الجادة. ومع ذلك لم يحمل تجاهم ضغينة ولا موجدة، بل كان يودهم ويصلهم بنفسه وبماله برغم ما بينهم من فوارق مادية واجتماعية.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه:
صين النفس واحملها على ما يزينها
تعش سالما والقول منك جميل
ولا ترين الناس الا تجملا
نبا بك الدهر أو جفاك خليل
وان ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد
يغنى غنى النفس أن قل ماله
ويغنى غنى المال وهو ذليل
فما أكثر الإخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
******
أما قصتنا التالية فهي عن فتاة حباها الله بجمال باهر وخُلُق رفيع ونباهة وصلاح وفلاح، نشأت في وسط أسرة ممتدة فيها البنين والبنات من قرنائها، ولكن الفتيات منهن كن يختلفن عنها اختلافاً بيِّناً، فبرغم أنهن كن أقل منها جمالاً وكمالاً وعقلاً وتعقلاً، إلّا أنّهن لم يسعين إلى تكملة ما نقص فيهن من مواهب بالاجتهاد في الدراسة، وعوضاً عن ذلك، فإنّهن انشغلن بكيد المكائد لها و(المغارز) حتى تبدو (صغيرة) في نظر الناس، وبرغم ذلك لم تنثني ولم تنحني وإنما مضت في طريقها لا تلوى على شئ، وكانت كلما زرعوا طريقها بالأشواك والعوائق تقتلعها وتمضي غير مكترثةٍ، بل إنّ ذلك لم يترك أي نفسها أي أثر سلبي، فكانت تزداد مهابةً وكمالاً وجمالاً، بينما كانت رفيقاتها تحرقهن الغِيرة وتأكلهن المواجد، فينعكس ذلك على حيواتهن فتتحول إلى نكبات. استمر الحال على هذا المنوال زماناً طويلاً والفتاة تنتقل من نجاح إلى فلاحٍ، حتى تخرجت في إحدى كليات القمة وتزوجت واستقرت، بينما معظم من كن مشغولات بالمكايدات والمؤامرات ما زلن (مكانك سر) بعضن تعثرن في الدراسة وبعضهن لم يتوفقن حتى في تكوين أسر مستقرة. بعض الناس يكون همّه أن يرتقي ويرتفع، والبعض يكون كل همّه أن يحبط الآخرين ويكيد لهم المكائد، وهذا من يجب أن تتجنبه وتتحاشاه. قال الشاعر الشعبى:
ما تخاوي البغش وتخلي من سمّارك
وذو الوجهين يضاحكك وتلقى همُّو دمَــارك
خليك كالنخيل العالي باني عمَــارك
يرموك بالحجارة وإنت أرمي ثمارك
*****
سمح الزول يكون أجواد وصافي سريرة
وسمح البفقد الإخوان بعامل الجيرة
كلما حياتنا طالت ولا لينا قصيرة
الأعمار بتكمل والمتبقي السيرة.
******
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين).
أثمِّن عالياً بالإنابة عن أهلي في العيلفون، المجهودات الجبارة التي يقوم بها أبناؤنا في الداخل والخارج في مجموعات “طوارئ العيلفون” و”سقيا الماء” و”ونسة عيلفونية” وآخرين وهم يتنادون لإعادة إعمار ما دمّـرته الحرب وما تركه الأوباش المجرمون من خرابٍ، فبفضلهم وبفضل المستنفرين من أبنائنا والقوات المسلحة والأجهزة النظامية الأخرى، فإنّ العيلفون سترجع أفضل مما كانت بإذن الله تعالى.
كن سمح السجايا كريم الخصال بعيداً عن الصغائر وسفاسف الأمور فإنّ الأعمال تبقى وتفنى الجسوم فلا خالد إلّا الله
وسلامتكم.
*انتقل إلى الرفيق الأعلى بـ”مستشفى الجلاء” في الجماهيرية العربية الليبية الأخ وابن العم عصام عثمان الخليفة أحمد، فذهب مبكياً على شبابه. العزاء لأشقائه عماد ووليد ولشقيقاته ولأبناء وبنات الخليفة بركات ومحمد والشيخ إدريس ونور الجليل والملكة والزهراء وخلود الخليفة أحمد ولكل آل الخليفة علي وآل عربي وآل الإمام وآل أسد الله ولجميع الأهل بالعيلفون والخرطوم والباقير الشرقي ومصر والخليج وبريطانيا وأمريكا وفرنسا وكل أنحاء العالم.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
*القاهرة – العيلفون
*واتس اب 00201117499444