مرام البشير تكتب هل تفعلها تركيا وتحسم الخلافات بين الجارتين؟

مما لا شك فيه أن سقوط نظام الأسد في سوريا ديسمبر ٢٠٢٤م كان من أبرز عوامل تغيير ميزان القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، فقد شكّل منفذاً استراتيجياً عزّزت فيه تركيا دورها الحيوي من خلال إحكام سيطرتها على مناطق واسعة في شمال سوريا، الأمر الذي جعلها مؤهلة لتكون شريكاً استراتيجياً للحكومة السورية الجديدة، هذا التوسع في الشرق الأوسط تزامن مع تحركاتها النشطة في القارة الأفريقية للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والتجارية في غرب إفريقيا وتحديداً في تشاد، حيث كان لقِدم العلاقات التاريخية بين البلدين دافع كبير لتطور العلاقات بينهما عقب تراجع الدور الفرنسي في تشاد والذي ظل متماسكاً طوال ستة عقود منذ نيل تشاد استقلالها من فرنسا في العام ١٩٦٠م.

في السابق، اتسمت العلاقات بين تركيا وتشاد بالتعاون الاقتصادي، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما إلى “١١٢” مليون دولار في ٢٠٢٣م بعد ما كان حوالي “٥٠” مليون دولار في السنوات الخمس الماضية، ولكن بتطور الأحداث والأزمات في المنطقة برزت تركيا كفاعل إقليمي قوى يمكن الوثوق به خاصة أنها تتمتع بنفوذ كبير في الجوار التشادي كليبيا، أفريقيا الوسطى ونيجيريا، الأمر الذي جعلها وبشكل سريع تتسلم إدارة قاعدة أبشي العسكرية في شرق تشاد بعدما أخلتها القوات الفرنسية وسلمتها للجيش التشادي في يناير ٢٠٢٥م.

وعلى الرغم من وجود لاعبين دوليين وإقليميين كُثر في منطقة غرب أفريقيا كروسيا والصين والإمارات، إلا أن تركيا أصبحت الممول العسكري الأبرز لتشاد فهي بموجب اتفاقية التعاون العسكري التي وقعت بين البلدين في أكتوبر ٢٠٢١م تلقت عددا مقدرا من الأسلحة والمعدات العسكرية بما فيها المسيرات التركية ذات الصيت الواسع في أفريقيا، حيث تُقدَّر مبيعات الأسلحة التركية للدول الأفريقية بحوالي “٣٢٨” مليون دولار عام ٢٠٢٣م، وباتت من خلالها تركيا رابع أكبر مُورّد للأسلحة إلى أفريقيا في ذلك العام.

إذن، يمكننا القول إن العلاقات التشادية التركية في أفضل حالاتها، وذلك لاعتبارات كثيرة تخص البلدين، ولكن ما يهمنا هنا هو سؤال مهم هل يمكن لتركيا لعب دور إيجابي بين السودان وتشاد لا سيما في ظل التوترات المتصاعدة بين البلدين؟

يمكننا توضيح الإجابة على هذا السؤال من خلال تحليل عدة عوامل على ضوء المتغيرات التي تعصف بمنطقتنا الأفريقية والعربية:
أولاً: إنّ تطور العلاقات التركية السودانية في الآونة الأخيرة قد يعتبر مدخلاً جيداً لتركيا لكي تلعب هذا الدور الحيوي خاصة وأنها بادرت مُنذ بداية الحرب للقيام بأدوار سياسية مهمة كان آخرها المبادرة التركية لإنهاء الحرب في يناير ٢٠٢٥م، والتي حاولت من خلالها التوسط بين السودان والإمارات لدعمها المتواصل للمليشيا ومن المرجح أن هذه المبادرة لم تر النور وفقاً لموقف السودان المبدئي والواضح من الإمارات، ولكن خلاف السودان مع الإمارات يختلف من خلافه مع تشاد؛ ويمكن أن تساهم تركيا في تحييد الدور التشادي السالب تجاه السودان لا سيما وأن السودان وتشاد يربطهما تاريخ مشترك وحدود جغرافية واسعة يتداخل فيها طيف واسع من القبائل والسحنات.

على صعيد آخر، قد يشوب هذا الدور بعض التقاطعات في علاقاتنا الخارجية خاصة علاقتنا مع الشقيقة مصر والتي تعتبرها تركيا غريما إقليميا لها في المنطقة، ولكن يبدو أن تركيا ومصر في طريق حلحلة كافة المشاكل العالقة بينهما وتعزيز شراكاتهما الاقتصادية والتجارية، بجانب أن تركيا يبدو أنها عازمة على تحقيق استراتيجيتها الأوسع في شمال شرق وغرب أفريقيا، حيث أمضت تركيا العقد الماضي في تشجيع الاستثمار والتجارة مع السودان وإثيوبيا، وقدم الجيش التركي دعماً كبيراً للصومال وليبيا في محاولة لتحقيق الاستقرار فيهما، كل هذا قد يمنحها ميزة استراتيجية قوية لتأمين نفوذها في القارة الأفريقية، ويشجعها على المساهمة في خلق أرضية مشتركة لجمع الحكومة السودانية والتشادية تعتمد على كبح جماح الدعم التشادي للمليشيا مما يفضي إلى استقرار نسبي في مناطق الحرب خاصة دارفور التي قد يسيطر عليها الجيش السوداني في مقبل الأيام، وبالتأكيد سيقوم بطرد المليشيا من كافة أراضيها، الأمر الذي يجعل تشاد مُلزمة بعقد تفاهمات مع الحكومة السودانية ومحاولة حماية حدودها من هؤلاء المرتزقة، ويمكن أن تعود تجربة القوات المشتركة المميزة التي كانت صمام أمان للدولتين على الحدود السودانية التشادية في السنوات الماضية.

ثانياً: إن المتابع للمشهد التشادي وردود الفعل السياسية للحكومة التشادية خلال حرب السودان يجد أن تشاد تم دفعها دفعاً من أجل المساهمة كداعم لوجستي لمليشيا الدعم السريع، وذلك تمثل في المصالح الضيقة لبعض رجالات الدولة بتشاد من جهة، والأواصر الاجتماعية بين بعض القبائل التشادية وقيادات المليشيا من جهة أخرى، لذلك يمكننا أن نتخيّل الكم الهائل من الضغوطات الإماراتية والغربية والإسرائيلية التي مُورست على الحكومة التشادية والتي اعتبرها كثير من المحللين، حكومة متواضعة الخبرات السياسية لا سيما وأنها كانت تراهن على استيلاء المليشيا على السلطة في السودان وهذا رهانٌ قصير النظر وغير عقلاني بحكم كثير من العوامل لا يسعنا الوقت لسردها.

هذا الارتباط الكبير بلوبي الدعم السريع داخل تشاد، جلب لها حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني على قرار كل الدول التي شاركت في دعم المليشيا فقضية اللاجئين، تململ بعض قيادات الجيش التشادي وتنامي الحركات المتمردة على النظام التشادي، بجانب الأوضاع الأمنية المتدهورة في إنجمينا بسبب الهجمات الإرهابية، كل ذلك قد يساهم في حدوث تغيير سياسي على رأس الحكومة التشادية على قرار ما حدث في ٢٠٢١م عندما اخترقت مجموعة جبهة التغيير والوفاق في تشاد (فاكت) التى تتمركز في مناطق سيطرة خليفة حفتر في ليبيا، الحدود التشادية منخرطة في معارك أدت إلى مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي، وهذا بالتأكيد ما لا تريده تركيا، خاصة أن هذه الحكومة بقيادة محمد ديبي هي المسؤولة عن تطوير العلاقات بين تركيا وتشاد. لذلك من المرجح أن تساهم تركيا في تهدئة الأوضاع بين السودان وتشاد إذا ما طُلب منها ذلك على أمل المحافظة على نفوذها داخل الحكومة التشادية.

وأخيراً يمكننا القول إن المنطقة الأفريقية عموماً والساحل الأفريقي على وجه الخصوص يشهدان دوراً تركياً متنامياً، في وقت يلاحظ فيه تراجع النفوذ الغربي، لذلك من المرجح أن يمنح التقارب المتزايد بين تشاد وتركيا فيما يتعلق بتعزيز التعاون العسكري السودان وتشاد فرصة ثانية لإعادة النظر في علاقاتهما خاصة إذا ما تمت قراءة المشهد الإقليمي بصورة دقيقة وحكيمة من قبل الحكومة التشادية، وقد تساهم هذه الخطوة أيضاً في معرفة ما إذا كان النموذج التركي فعالاً بالمقارنة بالنموذج الفرنسي في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة، وهو ما يتطلب متابعة التحركات التركية وتقييمها خلال الفترة القادمة.

شارك الخبر

Comments are closed.