كغيرنا من الناس وصلتنا صور وفيديوهات أطلال بيتنا في الخرطوم، والمشهد لا يختلف عن مثيله، منزل منهوب.. مُخَرَّب.. مُدَمَّر في بلد مكلوم..
بيوتنا ليست مجرد أبنية، هي جدران كانت لنا وطن صغير احتضن أفراحنا وأتراحنا، جدران شكلت الأمان بُنيت بعرق وتعب وجهد سنوات طوال هي ذكرياتنا وحكاياتنا التي لم تُروى بعد، بعضها عشناها وأخرى عاشتنا بين هدوء وصخب.
منازلنا لم تُؤخذ منها متعلقاتنا ومقتنياتنا فقط، لقد تم احتلالها وانتهاك حرماتها، لقد قصد سارقوها إيصال رسالة مفادها أنهم كانوا هنا ويستكثرون علينا كل شيء، أخذوا ما أخذوه لكن سلوكهم تجاه أشيائنا يحكي كيف استخسروا ترك شيء على حاله، حتى ما تركوه خرّبوه… مزَّقوا الكتب والصور والشهادات وكسروا الزجاج والأبواب والأخشاب وكل ما استعصى عليهم حمله، وتركوا فضلاتهم وقاذوراتهم لتكون شاهدة على كنههم وبشاعة أفعالهم.
ما حدث ليس مجرد عمليات سلب، بل تدمير ممنهج وبحقد دفين هدفه مع سبق الإصرار والترصد إلحاق الأذى بنا وبأهلنا ومناطقنا ومدننا والعبث بالهوّية وإحداث تغيير ديموغرافي.
نحن ندفع فواتير أفعال لم نرتكبها ولم نكن سببا فيها يوما ،
لا أدري أي تعايش هذا الذي يمكن أن يتحقق مع أناس كهؤلاء عقولهم خربة وقلوبهم صدئة تحمل لوطن بأكمله كل هذا الغل والحسد والكراهية؟؟؟ !!
ديتول العالم كله غير قادر على تنظيف هذه النفوس والعقول.
رأيت أن هناك من عفا عمَّا حدث لبيته، وعن نفسي أقول إن العفو عند المقدرة، وأنا لست قادرة، فحسبنا الله ونعم الوكيل “وإحنا ما عافيين لا دنيا ولا آخرة”، وعند الله تجتمع الخصوم.
استغرب من يهوِّنون ألم فقد شقى السنين، معللين ذلك بأنه بسيط مقابل فقد الأرواح.. نعم إن فقد الأرواح حقا وجع عظيم، لكن هل تعلمون كم روحا فقدنا من الحسرة؟؟!!.
الحزن أيضا قاتل خفي وصامت، قد يتسلل بغتة نتيجة صدمة ربما تسببت في جلطة أو سكتة في الدماغ أو القلب.
أي حسرة يمكن أن تصيب بشر مثل تلك التي ألمَّت بأعزاء قومٍ كانت بيوتهم وجيوبهم مصدر عطاء لكل من حوّلهم ووصل بهم الحال أخيراً لخسارة كل شيء حرفيااااا وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَت وتبدَّلَت أحوالهم؟؟؟؟
حصيلة التعب وسنوات الغربة.. البيوت وما فيها وما تم إدخاره من مال ومجوهرات حتى في البنوك، فأغلب وثائق التأمين التي وقعوها لم تشمل ضمان حقوقهم في الحروب والكوارث؟؟!!
أشرف الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في دعائه من السلب بعد العطاء ومن فواجع الأقدار.
“أي عمر ضاع يمكن استعادته؟ وأي حق عاد هنا من قبل؟ والناس الشفشفونا كلنا ديل بتحاسبوا؟ وبيحاسبهم منو ذاته؟”
أسئلة مشروعة رددها عم أحمد والد صديقتي الذي أمضى 35 عاما من حياته يعمل بكد في الخليج ليبني بيته على مزاج أحلامه ويشتري سياراته ويؤمن مستقبل بناته وزوجته ببعض الذهب، كل هذا خسره في لحظة…!
ولم يجد إجابة على أسئلته حتى فارق الحياة قبل أشهر إثر إصابته بجلطة قلبية رحمه الله..
مات عم أحمد والموت لا يوجع الموتى بل يوجع الأحياء كما قال الشاعر محمود درويش.
وهنا يبقى السؤال هل كل الآلام نتيجة فقدان أرواح أو بيوت أو أموال؟!
الإجابة بالطبع لا… ماذا عن من يعيشون بأوجاعهم نتيجة خسارات أخرى؟؟! من فقدوا كرامتهم وشرفهم؟! من اُنتُهِكَت أجسادهم بالتعذيب والضرب والتجويع؟! من هُتِكَت أعراضهم بالاغتصاب؟؟!!
ولماذا أصلا نحن نتحدث عن مقدار الألم ومقارنة أسبابه؟!
هل الألم في حد ذاته درجات؟! الألم يُقاسُ بمقدرات الناس على احتماله وهذه مسألة نسبية لا تدخل فيها حسابات المنطق.
أي قسوة تلك التي وصلنا إليها ونحن نتسابق بحجم الألم ونتسائل عن أي الخسارات أكبر وأي الجروح أعمق؟!
رحمة الله على شهداء الوطن والشفاء لكل جريح ومصاب وفي الحقيقة لم ينجُ أحد من هذه الحرب جميعنا شركاء في هذا الوجع الخرافي.. الكل مُصاب إن لم يكن برصاصة فبمصيبة، فالطلقة تقتل والصدمة تقتل والألم كذلك يقتل…!
نحن لسنا في سباق مع الألم، نحن في سباق مع الزمن لإنقاذ الوطن.