مرام البشير تكتب: تحركات الجوار الأفريقي نحو السودان.. أسرار التغيير القادم!

بات الجميع في أفريقيا والعالم العربي يتفقون على حقيقة واحدة أصبحت أكثر وضوحاً بعد مرور سنتين ونيف على الحرب في السودان؛ الحقيقة التي أيقنها البعض متأخراً أضحت الأولى في سُلَّم أولويات الحكومات والمؤسسات الأفريقية، لا سيما الحكومات المجاورة. رئيس المفوضية الأفريقية، محمود علي يوسف، كان له السبق في تلخيصها عندما قال في مايو الماضي إن “السودان يعد القلب النابض للقارة الأفريقية”. وأضاف: “نحن نستبشر خيراً ونتفاءل كثيراً بأن القوات المسلحة السودانية بدأت تسيطر على مناطق كثيرة”.

 

إن ضرورة الإسراع في حسم الحرب لصالح الجيش وعودة الاستقرار إلى السودان هو ما أصبحت تسعى إليه أغلب حكومات الجوار، وهو جهد يأتي من منظور عقلاني يُقدِّر أهمية السودان الجيوسياسية التي تحتم على الأنظمة المجاورة دعمه سراً وعلانية. وما التحركات الأخيرة لهذه العواصم ببعيد عن ذلك، حيث نجدها أظهرت عرفاناً وشكراً كبيرين لحقيقة أنه، برغم الحرب المشتعلة في كثير من أنحاء السودان، ما زال يحتفظ بحكومة قابضة وقوية تمتلك اليد العليا للحد من تأثير حربها على جوارها المضطرب. فكل من أديس أبابا وبانغي، اللتين دفعتا برجال المخابرات لزيارة بورتسودان، تنتظرهما معارك انتخابية وسياسية لا تحتمل دخان النيران المشتعلة في جوارهما السوداني، ناهيك عن شررها، خاصة وأنهما تعيشان في كنف رئيسين متمسكين بالسلطة حتى النخاع.

 

ضابط المخابرات المخضرم، الذي نسج طموحات وآمالاً كبيرة على ولايته الثالثة لرئاسة إثيوبيا في العام القادم، لا يسعه التنازل لغيره ولا حتى السماح لهم بالمشاركة في الانتخابات التي احتكر قرارها ولجنتها. فجأة يجد نفسه على صفيح ساخن من التطورات الداخلية التي تستهدف وجوده في السلطة، وقد خبر بذكائه المعتاد أنه لن يسلم من هذه المتغيرات إلا عبر المرور بمحطة بورتسودان.

 

آبي أحمد، الذي تحالف مع الدويلة في بداية الحرب وساهم في دعم مرتزقتها وعملائها السياسيين للسيطرة على الخرطوم مقابل محاصرة أعدائه والقضاء على جذوة تمردهم وبيع أراضيهم للدويلة، بجانب أراضي القضارف التي كانت تمثل مُراد الدويلة وقمة أحلامها، ها هو يرسل مدير مخابراته بعد محاولات متكررة عبر الهاتف وبحضوره الشخصي إلى بورتسودان سابقاً من أجل التوصل لتفاهمات بشأن القضاء على ترسانة التيغراي العسكرية وتفكيك مخيماتهم، فهم ما زالوا يشكلون أكبر هواجسه الأمنية والعسكرية، خاصة بعد تقاربهم الأخير مع أسمرا.

 

وهناك في بانغي، تطلعات البروفيسور وأستاذ الرياضيات للفوز بولاية ثالثة أيضاً نهاية العام دفعته للتحرك نحو السودان بخطى ثابتة في ظل ما تعانيه إدارته من حصار سياسي وأمني واستخباري تفرضه معارضته المسلحة. فبحكم الحدود التي تربطها مع السودان، وجدت إدارة فوستين تواديرا نفسها أمام تعاظم كبير لزعماء “الوطنيين من أجل التغيير” الذين لم يعودوا كما كانوا في السابق، وأيضاً التحالف العسكري لإنقاذ الشعب والتعافي الذي يقوده العقيد “أرميل سايو”، فرغم اعتقاله من الشرطة الكاميرونية وتسليمه لبانغي في مايو الماضي، إلا أن جماعته المسلحة تشهد تنامياً عسكرياً كبيراً في ظل سيولة أمنية غير مسبوقة على الحدود الشرقية لأفريقيا الوسطى. وزيادة على ذلك، الوضع الاقتصادي المتدهور وإفرازات التدخلات الخارجية التي تحمي الرئيس، كل ذلك يهدد عرش تواديرا المرتقب، مما جعله يسارع للمرور بمحطة بورتسودان.

 

الزيارتان مثلتا الجانب الظاهر للعيان من التحركات، ولكن ما خفي كان أعظم. فالقارة الأفريقية تتشكل وتتغير من جديد، والسودان له دور مهم في هذا التغيير الذي عصف بكثير من الأنظمة وسيعصف بالبقية. التطورات المتلاحقة في جنوب السودان تؤكد ذلك من خلال تصدع المؤسسات الأمنية في جوبا، التي لن تصمد كثيراً، خاصة بعد تشعب أزمة سلفاكير التي تعدّت مشاكسته التاريخية مع نائبه، بل توسعت لتشمل معظم حلفائه الذين أقالهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل انقلاباً حقيقياً على جبهة النضال التي قادها جنوب السودان ضد شماله وساهمت في فصل البلدين. لذلك، جوبا تحتاج من ينتشلها من حالة الفوضى العارمة التي تعصف بها، ولن تجد لذلك سبيلاً إلا بالمرور بمحطة بورتسودان في قادم الأيام.

 

كذلك تشاد، التي تحاول التقاط أنفاسها الاقتصادية عبر بوابة صندوق النقد والبنك الدوليين فيما عُرف بخطة “تشاد كونكسيون 2030” التي ابتدعتها حكومة محمد كاكا لتثبيت أركان حكمه المتضعضع، إلا أن مؤشرات الواقع المزري في أنجمينا الغارقة في أمطار الخريف تحكي عن تنامي خطر محدق بمحمد كاكا. ولولا مسارعته لإخفاء دعمه للمليشيا منذ وقت طويل، حين أقال مدير مكتبه إدريس بوي، حلقة الوصل بين المليشيا والنظام التشادي، وحين غض الطرف عن توجهات جنرالات معسكراته الشرقية الذين يحاربون المليشيا تضامناً مع أبناء عمومتهم في دارفور، ولولا علم كاكا المسبق بأن تشاد لن تسلم طالما الحرب في السودان مستعرة، لأصبح في وضع لا يُحسد عليه الآن. لذلك من المرجح أن تسارع تشاد بعودة علاقاتها بأفضل مما كانت عليه مع حكومة السودان في المستقبل القريب.

 

أخيراً، كل التغييرات والتطورات السابقة حوت مضامين ورسائل قوية لنظام أبوظبي، خاصة بعد فشل مشروعه لغزو السودان الذي كان بداية النهاية لأحلامه التي نسجها منذ خمسة عشر عاماً حول أفريقيا. فشل مشروع غزو السودان بدد أحلام الدويلة في السيطرة على عواصم أفريقية أخرى وأجهض طموحاتها السياسية الاستعمارية، ناهيك عن سمعتها التي تلطخت عند شعوب المنطقة والإقليم. هذا يعني بالضرورة أن خروجها من الباب الخلفي أصبح مسألة وقت، وسينتهي عصر غطرسة الإماراتيين كما انتهى عصر الغطرسة الفرنسية في أفريقيا.

 

(اللهم برداً وسلاماً على السودان).

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.