حجاوي الجمعة: عودة الروح

هشام الخلفية

دفعني لاختيار هذا العنوان ما رأيته من نهوض الشعب السوداني كله الآن يعيد للبلاد ألقها ورونقها بعد كل الدمار والخراب الذي سببه عدو غاشم جاءنا من بلاد بعيدة طمعاً في حكم بلد ترسخت تقاليد الحكم فيه لقرون فصدّه الجيش حامي الحمى والشعب والمستنفرون بعد قتال شرس خلف دماراً هائلاً، فأعادني منظر الشباب وهم ينظفون الشوارع والأسواق ويعمرون المصانع لأيام جميلة عشناها في السودان قاطبة وفي العيلفون على وجه الخصوص كانت افراحها تدوم لأيام طوال.

 

من هذه الأفراح اختار بعضها دون ترتيب زمني،
اولها زواج الخال محمد الحسن الأمين صبير والخالة عواطف بابكر صباحي عليهما رحمة الله ورضوانه.
تصادف ذلك الزواج مع موسم الخريف حين يعتدل الجو وتهب الرياح المشبعة بحبات المطر فتبعث فى النفوس انتعاشاً وراحة. أذكر ذلك الزواج لسببين رئيسيين أولهما هو انه بالإضافة للوليمة الضخمة التي أقيمت كالعادة وتناول فيها المدعوون ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب من محمر ومقمر ومشمر فإنه فى المساء قد أقيم حفل مرطبات معتبر تناول فيه المدعوون الفواكه والحلويات والمرطبات وقد كان ذلك أمراً جديداً في الزيجات آنذاك، إذ كان الناس يكتفون بالموائد التي تحتشد بأنواع اللحوم المختلفة، وها قد ادخل الاستاذ محمد الحسن صبير تقليدَا جديدًا هو حفلات الشاي. أما الأمر الجديد الثاني فهو الحفل الغنائي، إذ اعتاد الناس في تلك البيئة الفنية ان يحيي حفلاتهم الفنانون المعروفون آنذاك مبارك حسن بركات والجاغريو وأحمد المصطفى وخلف الله حمد وسيد خليفة، ولكن تفاجأ أهالي العيلفون بفرقة موسيقى البوليس بكامل زيها والآلات النحاسية وهي تشنف آذانهم بأعذب الالحان، وكما سمعت من الوالدة رحمها الله فقد كانت تلك هى المرة الثانية التي تشرف فيها تلك الفرقة العيلفون وكانت المرة الأولى فى زواج عمنا أحمد الشيخ مضوي والأخت نفيسة الخليفة بركات وقد كانت حبوباتنا بخيتة وفاطمة حمد ينحدرن من قبيلة الشايقية والمناصير وكان مدير البوليس آنذاك يمت لهن بصلة القرابة فلذلك جاءت فرقة موسيقى البوليس. مازال منظر الفرقة بالزى الملون الجميل والآلات المتنوعة مطبوعاً في ذهني كان ذلك كان بالأمس القريب.
كان الزواج الثاني أيضاً مهرجاناً من الفرح تغنى فيه لأول مرة فى العيلفون، وأعتقد انها آخر مرة الفنان حسن خليفة العطبراوى وكان ذلك هو زواج العم والخال الشيخ ادريس (الحاج) السر والخالة فاطمة ابراهيم ادريس (الزينة). كان الفنان حسن خليفة العطبراوى فى قمة تألقه وشبابه فأطرب وابدع.
نسانا حبيبنا الما منظور ينسانا
قالوا سافر ودع ما نسانا
حليل الخوه الما قدر عشانا
*****
و:
ديمه فى العشاق القلوب مرتاحه
وانت يا قلبى ما لقيت ليك راحة
*****
و:
فى الأسى ضاعت سنينى
واذا مت اذكريني
والتى حرّفها اخونا عبد الصادق عوض عبد الصادق وهو رجل ساخر له حس فكاهي عال إلى: (في “الحسا” ضاعت سنينى) وذلك عندما كنا نعمل فى شركة أرامكو السعودية برغم ان “الحسا” من أجمل مناطق المملكة العربية السعودية.
كذلك تغنى فى الزواج فنان شعبى كان مشهوراً جداً آنذاك يغنى بالدلوكة وتصاحبه فرقة من الشيالين هو الفنان إبراهيم الهادي وهو من منطقة الكاملين ومازلت اذكره بالجلابية الخضراء والطاقية الحمراء وهو يبدع في اغاني الحماسة التي تشتهر بها المنطقة. اما الصبحية فقد أحياها عمنا احمد المبارك قبل ان يتحول إلى عزف الكمنجة وكان آنذاك مغنياً مشهوراً حتى اننى سمعت الفنان مبارك حسن بركات فى برنامج اذاعي يقول ان ما شجعه للذهاب للإذاعة هو انه سمع ابن منطقته احمد المبارك يغنى من الإذاعة.
كان ذلك الزواج مهرجانا فنيا لن ينمحى من الذاكرة ابدا.
اما الزواج الثالث فأذكره لسبب غريب وهو ان ما حدث معي انساني الحفل الغنائي تماماً وهو زواج ابن العم مرتضى الجيلانى ادريس واختنا عفاف الطيب ادريس. كان العريس مهندسا مرموقا فى البريد والبرق، اما العروس فهى كريمة العم الطيب ادريس الحبر من الرعيل الأول من المعلمين في السودان وأول مبتعث سودانى لتدريس اللغة العربية فى نيجيريا وهى خريجة مدرسة “اليونتي” التى كانت آنذاك مدرسة بنات الطبقة العليا فى العاصمة. بالإضافة لصلة القرابة فقد كانت تربطني بشقيق العروس الأخ الدكتور عادل (رحمه الله) صداقة عميقة. كلفني الأخ عادل بالإشراف على الفنانين وضيافتهم، غير ان ظهور الأخ رمضان الطيب ادريس على المسرح كاد ان يصرفني عن أداء هذا الواجب ورمضان هو جنوبي جاء مع العم الطيب ادريس من الجنوب ورافقه طيلة حياته. قدم رمضان فواصل من الفكاهة والمرح شغلت الناس وشغلتني شخصياً عن متابعة الحفل وما زلت اذكر قفشاته ونكاته التى كانت تتدفق من فمه بلا انقطاع فأضفى ذلك على الزواج الذى كان اصلاً مهرجاناً باذخاً من كرم الضيافة طابعاً اسعد كل المدعوين فانطبع ذلك الزواج فى ذهني حتى الآن.
اما الزواج الرابع وقد تركته متعمدا حتى الآخر، برغم اننى اذكره بصعوبة بالغة فقد كنت صغيراً فى السن جداً وذلك لأنني شهدت فيه منظراَ لأول واخر مرة فى حياتى. كانت هنالك أسرة نازحة من منطقة قريبة من العيلفون استضافتها أسرة كريمة فى حيّنا فاقتطعوا لهم جزءاً من المنزل كان عبارة عن غرفة وامامها شجرة ضخمة يستظلون بها. كانت العادة هى ان يحتشد الجميع لمشاهدة رقيص العروس حيث تقف العروس فى كامل زينتها تستعرض مهاراتها فى الرقص على أنغام الدلوكة التى تعزفها صويحباتها وكانت اغاني “التم تم” هى السائدة آنذاك. و”التم تم” نغمة جاءت للسودان من الجنوب بواسطة سائقى اللوارى وادخلتها تومات كوستى ام بشاير وأم جباير ويقال ان أصلها من حوض نهر السنغال وهنالك قصيدة مشهورة للسياسى والشاعر والرئيس السنغالى ليوبولد سنغور اسمها “شاكا” يقول فيها:
لا اسمع التم تم
غيابه فى الليل
يجعل القرى الواقعة فى المسافة
بين الغابات والتلال
بعيدة أكثر
****
اذكر ان العروس عندما وقفت فى منتصف الحلقة كانت تتزين بـ”الرحط”، و”الرحط” لأبناء هذا الجيل هو عبارة عن حزام من الجلد تلبسه العروس فى الوسط وتتدلى منه سيور رقيقة من الجلد وهذا كل ما فى الامر!!! اما اعلى الجسد فيتدلى حجاب يمسك به العريس أثناء رقص عروسته لا فوقه ولا تحته شئ!!!! كان ذلك منظرا غريبا عليّ جداً لذلك ظل راسخاً فى ذهني حتى الآن.
فى قصيدة “انشودة الجن” للشاعر التيجاني يوسف بشير والتى تغنى بها عمنا الفنان الضخم سيد خليفة تقول بعض ابياتها:
قم يا طرير الشباب
غنى لنا غنى
يا حلو يا مستطاب
انشودة الجن
وأقطـف لى الاعناب
واملا بها دنى
من عبقري الرباب
او حرم الفنى
حتى يقول:
وفجر الاعواد
رجعا وترديدا
حتى نرى فى البلاد
من فرح عيدا
****
وإن شاء الله ستكون أيامنا كلها أعياداً بعد أن دحرنا هذا العدو الغاشم واوصلناه إلى باب داره التى ربما سندخلها إن شئنا… إن شاء الله
وسلامتكم.

*نعزي أنفسنا وقبيلة المعلمين فى العيلفون فى وفاة ثلاثة من فرسانها خالد اللاقيدو وعبد الله السراج ورملي احمد الامين. لهم الرحمة والمغفرة ولأهلهم الصبر والسلوان.
القاهرة / العيلفون
واتس اب 00201117499444

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.