الحياة لا تستقيم على وتيرة واحدة؛ فيها منعرجات ومنحنيات، انخفاض وارتفاع. يعرف الإنسان بدايتها لكنه لا يعرف نهايتها أبداً. في ما يلي سأحكي قصصاً لأشخاص تغيرت حياتهم فجأة، واتخذت منحى جديداً تماماً.
أولهم “سيد كهربا”. من عاش السبعينات في العيلفون لا يعرف “سيد كهربا”؟ كان شاباً ابنوسياً طويل القامة، نحيفاً بصورة مفرطة حتى كاد أن يطير في الهواء. ظهر “سيد كهربا” في العيلفون فجأة، كأنه جاء من لا مكان (from nowhere)، فلا أحد يعرف من أين جاء. احتضنه الرجل الشهم والصديق والأخ الماحي داؤود الماحي المعروف بـ”حروق”، فعاش معه كأحد أفراد الأسرة. جاء “سيد كهربا” العيلفون في بدايات إدخال الكهرباء، وكان فنيًّا لا يُشق له غبار، وسرعان ما جذب شعبية كبيرة واكتسب حباً جارفاً بين الناس. كان “سيد كهربا” رياضياً بالفطرة، وكان أخونا الماحي رياضياً من الطراز الأول، بدأ حارس مرمى ثم احتضن “فريق الوحدة” الوليد آنذاك، فأصبح له بمثابة الأب الروحي.
كان “سيد كهربا” يقود المشجعين في المباريات، يداعب ويطلق القفشات، فأحبه الناس حباً جما. ثم فجأة اختفى، كأنما انشقت الأرض وابتلعته، ومثلما جاء من اللامكان، اختفى فيه! نسى الناس “سيد كهربا” تماماً، فلقد شغلتهم عنه الشواغل.
فجأة، في بداية التسعينات، حدث ما لم يكن في الحسبان. ذهبت مع أحد الأصدقاء لاتحاد الفنانين في أم درمان للتعاقد مع فنان لإحياء حفل زواج. اتفقنا على كل شيء: التاريخ، الأجر، ووقعنا العقد. طلبوا منا الانتظار حتى يأتي الفني المختص الذي يرافق الأجهزة الكهربائية ليقوم بتركيبها والإشراف على تشغيلها، فجلسنا في الصالة ننتظر. بعد فترة انتظار قصيرة، ظهر رجل أسمر نحيل (يتطوطح) من بعيد، وعندما اقترب عرفته تماماً، فقد كان “سيد كهربا” بلحمه وشحمه. تعانقنا ثم تحدثنا قليلاً عن العيلفون وذكريات الرياضة هناك، ثم افترقنا على أمل اللقاء في يوم الحفل بعد أن وصفت له المكان بالضبط.
في اليوم المحدد جاء مع الفرقة وجلس حتى نهاية الحفل. ومع الزحمة واللخمة نسيت أن أسأله أين كان ولماذا اختفى، ولكنه في هذا الوقت اختفى للمرة الثانية في اللامكان. هذا رجل جاء إلى مجتمع العيلفون فجأة من جغرافيا مختلفة، ثم اختفى فجأة، وبدأ تاريخاً جديداً في مكان جديد!
القصة الثانية كانت في المملكة العربية السعودية نهاية السبعينات. شهدت تلك الفترة هجرة غير مسبوقة تدفق فيها السودانيون من كل الأعمار والمهن نحو الخليج، وكان نصيبي المملكة العربية السعودية حيث التحقت بشركة “أرامكو” السعودية، مقرها الظهران في المنطقة الشرقية. من بين المهن التي طلبها السعوديون بشدة كان قطاع البريد، فاستقدموا أعداداً كبيرة من موظفي البريد الذين وضعوا اللبنات الأولى للبريد السعودي. من ضمن هؤلاء كان أحد الأقارب الذي تم إلحاقه في بريد الدمام.
في أحد الأيام، ونحن نتجول سوياً في سوق المدينة، قابلنا رجلاً شعر رأسه أبيض، لكنه كان يتمتع ببنية رياضية قوية. وكان تربطه بذلك الرجل علاقة قرابة من جهة الأب. وكعادة السودانيين، جلسنا في أحد المقاهي نحتسي الشاي ونتبادل أطراف الحديث. حكى لنا الرجل أنه جاء إلى المملكة منذ زمن بعيد بحثاً عن العمل. كانت الرياضة في المملكة حينذاك في بداياتها، وبما أنه كان لاعباً ماهراً في السودان، فقد التحق بأحد الأندية السعودية الناشئة. سرعان ما ذاع صيته واشتهر بين الناس وأصبح شخصية مرموقة في المجتمع. يقول إنه حرفياً لم يكن يدفع أي شيء كمصروفات؛ فإذا اشترى طعاماً من متجر رفض صاحبه أن يأخذ منه الثمن، وكذلك الحال في باقي مناحي الحياة. يقول إنه انتقل من اللعب في الميدان إلى التدريب، فازدادت شعبيته بين الناس حتى تقاعد من كل شيء بعد عمر طويل في الملاعب. وهكذا تدخلت الحياة بتقلباتها في تغيير مصير هذا الرجل الذي جاء إلى المملكة بحثاً عن عمل فأصبح من نجوم المجتمع! غيّر الجغرافيا فدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
القصة الثالثة كانت في هولندا، وهولندا هذه تمثل لي حباً لا نهائي. زرت هولندا أول مرة في بداية الثمانينات، واخترت “لاهاي” العاصمة الإدارية للبلاد لأسباب عدة، أولها أنني كنت أود أن أتعرف على عراقة وأصالة البلاد، حيث تحتضن بعض أقدم المعالم التاريخية لهولندا.
في أحد الأيام قررت أن أخرج قليلاً إلى الضواحي لأرى حياة الريف والأبقار التي نراها في دعايات الألبان المجففة. وأنا أتجول في تلك المنطقة، وقع نظري على فندق صغير. عند تمعني في اللافتة المرفوعة أعلى المدخل، وجدت اسمًا باللغة الإنجليزية لم يكن غريبًا على أذني. دخلت من باب الفضول، فوجدت رجلاً أسمر اللون طويل القامة. ما إن رآني حتى نهض مرحباً بلهجة سودانية مكسورة.
عرفت منه أنه جاء إلى هذا المكان قبل ثلاثين عاماً، فطاب له المقام وتزوج، وكون أسرة، واستقر تماماً، ولم يرجع إلى السودان منذ ذلك الحين، وأصبح مواطناً هولندياً كاملاً. هذا الرجل جاء إلى مكان غريب تماماً، ولكنه استطاع أن يتأقلم ويبدأ حياة جديدة بعد أن خرج من حياة مختلفة.. ويا سبحان الله!
قصتنا الأخيرة عن شخصية مختلفة تماماً، وهو السر أحمد علي محمد الحافظ المعروف باسم السر قدور. والده أحمد قدور كان مادحاً مشهوراً في المنطقة وشاعراً، ووالدته زينب بابكر المعروفة بـ”بت البركة”. ولد السر قدور في قرية “الجابراب” جنوب المتمة في العام 1934م، ثم انتقل منها عندما كان في الثانية عشرة من عمره إلى قرية “الشعديناب” بعد أن أتم حفظ القرآن كاملاً. ومن هناك كان تغيير الجغرافيا الأول حيث انتقل إلى العاصمة الخرطوم.
استقر السر قدور أولاً في “أم درمان” في حي البوسته في منزل للعزاب، كان يقطنه مختلف الناس، من بينهم الشاعر والممثل إسماعيل خورشيد، الذي حفزه للاتجاه الفني.
ورث الأستاذ السر جينات الشعر والغناء من والده، فبدأ بنظم الأغاني ثم انتقل إلى التمثيل. وقد ساعده في ذلك قرب مسكنه من “قهوة جورج مشرقي”، التي كانت منتدى فنياً يجتمع فيه الشعراء والفنانون والممثلون، فاحتك بهذا المجتمع الذي كان يحتضن كل موهبة فنية.
في تلك الفترة تعرفت على الأستاذ السر قدور من بعيد، فقد كنت أشاهده ممثلاً في التلفزيون في بداياته، وكانت التلفزيونات قليلة في المنازل، وإنما كانت الدولة توزعها في الأماكن العامة. كنا كطلاب في مدرسة المؤتمر الثانوية نذهب في الأمسيات لمشاهدة التلفزيون في “ميدان البوسته” أو ناد العمال. كان السر قدور أنصارياً قحاً وناشطاً سياسياً، ما لبث أن تعرض للمضايقات من أجهزة أمن نميري، فهاجر إلى مصر، حيث دخل التاريخ فعلاً، وهناك تعرفت عليه عن قرب وأصبح صديقاً مقرباً.
تزوج الأستاذ السر المصرية من كفر الشيخ وأنجب أربع بنات هن المرحومة ثريا وزينب ونبيلة وأمل. وظف السر موهبته الفطرية في نظم الشعر والتلحين، فقدم للمكتبة السودانية أجمل الأغاني التي غناها كبار الفنانين: عائشة الفلاتية، صلاح محمد عيسى، صلاح ابن البادية، كمال ترباس، عاصم البنا وغيرهم. وأزعم أنني قد أطلقت شرارة برنامج “أغاني وأغاني”.
أقام الأخ خالد عثمان خالد حفلاً على باخرة نيلية ترحيباً بوالدته وبنت أختي نور أحمد الشيخ مضوي القادمة من لندن. جلست مع السر قدور وسجلت له لقاءً مطولاً تحدث فيه عن كثير من الأغاني ومناسباتها والأسرار الكامنة خلفها. اقترحت عليه عقب ذلك اللقاء أن يقدم برنامجاً يستعرض فيه تاريخ الفن في السودان، ومن هنا جاءت فكرة برنامج “أغاني وأغاني”. خرج الأستاذ السر قدور من الجغرافيا، وكان يعرفه قليلون، ثم دخل التاريخ فأصبح اسمه على كل لسان.
غنى محمد وردي فقال:
قلت ارحل أسوق خطواتي من زولا نسى الألفة
وهذه هجرة قسرية فرضها هجران الحبيب
أما الإنجليز فقالوا: “Like a river, success flows slowly,
at first gathering momentum until it curves its path through mountains.”
كالنهر، يبدأ النجاح بطيئاً ثم يجمع سرعته ليشق طريقه عبر الجبال.
لا مجال للهدوء ولا للركون للبدايات المتعثرة، فربما تخبئ لك الحياة مفاجآت سارة في النهاية.
وسلامتكم.
***
*أقام أهلنا من الدبيبة مهرجاناً من الفرح والبهجة هنا في القاهرة احتفالاً بزواج (أولاد الشيوخ) محمد ونسيبة. فالتهنئة موصولة لأخونا العزيز شيخ العرب إبراهيم حمد، وأختنا إشراقة صديق مضوي ووالدي العريس محمد وبيت مال وأولاده.*
*انتقلت إلى الرفيق الأعلى في تركيا، إيثار، ابنة أخونا الصادق محمد إبراهيم، لها الرحمة والمغفرة. العزاء لوالديها المكلومين، ولأخوالها معتصم والهادي حسن الفاضل، ولكل الأهل. إنا لله وإنا إليه راجعون.
