ظُرفاء الخرطوم ما بين (مايكروفون) الخزين و(بلنتات) الهادي الضلالي

تقرير: كوكتيل

كَانَ منظره وهو يَحمل مايكروفونه الأبيض المُميّز وسط أسواق الخرطوم لا يحتاج لكثير تعريفٍ، خُصُوصاً أنّ عباراته غالباً ما كانت تُنبئ عن شخصيّة فريدة من نوعها، لا يُمكن تجاوُزها بأيِّ حالٍ من الأحوال، فالراحل مُحمّد توم الخزين كان يُمثل لوحده وكالة إعلانات (بشرية)، وكان كل تُجّار السُّوق يرجعون إليه عندما تستعصى عليهم التجارة، فيهب إلى المكان المطلوب.. يتطلّع للبضاعة لدقائق.. قبل أن يرفع مايكروفونه ويبدأ في ترديد عَدَدٍ من العبارات التي كان يحفظها المُواطنون آنذاك.. بينما كان تنوُّعه في العمل يدفع حاجبي الدهشة للارتفاع، فهو في الصباح يفترش الصحف، ويقوم بالتعليق على مانشيتاتها بصُورةٍ سَاخرةٍ جداً ومُلفتة للنظر، حيث كان يُقدِّم تحليلاً للأحداث ولكن (على مسؤوليته الشخصية)!!

(1)
عندما تتوسّد الشمس كبد السماء، كان (الخزين) يقوم بتحويل مسار وكالته الإعلانية البشرية إلى اتجاهٍ آخر، فهو تَارَةً أمام أحد المطاعم الشعبية ومايكروفونه الذي لا يُفارقه يضج بالحيوية: (ها.. علينا جايي.. أحسن أكل عندنا.. الجَقَاجِق.. القُرّاصَة بالدَّمعة.. والدَّمعة سالت).. وغيرها من العبارات التي لا يُمكن أن يبتكرها شَخصٌ بمثل تلك التلقائية سوى الخزين.. كَمَا لن ننسى مُيُوله الرياضية، وتجواله داخل الإستادات لنثر الطرائف بين مُدرّجاتها، حيث مثل العم الخزين في ذلك الوقت لوحده إمبراطورية شعبية لا يُمكن المُرُور عبرها دُون قطع تذاكر التأمُّل والإعجاب والدّهشة.. حتى وافته المنية في العام 2004م.

(2)
وإمبراطورية الخزين لم تكن هي الوحيدة التي نَهَضَت في سالف الزمان، فقد ماثلها عدد من الإمبراطوريات لظرفاء المدينة والعاصمة، ومن ضمن تلك الإمبراطوريات، إمبراطورية أم درمانية شاهقة اسمها (الهادي الضلالي)، ذلك الرجل الذي شغل أم درمان مَرَحَاً، وصار مضربَاً للمثل في الكثير من المواقف، كما ساهم كثيراً في منح أم درمان لقب (العاصمة الضاجّة بالابتسامات).. ويعتبر الهادي نصر الدين الشهير بالهادي الدلالي أو (الضلالي) في مُختلف الروايات.. يُعتبر مَعلَماً من معالم أم درمان، حيث كان من الموسوعات الأم درمانية العَتيقة، فالرجل يحفظ المدينة (شارع شارع.. وزنقة زنقة).. كَمَا أنّه كان صاحب واجب بصورة غير عادية، فالرجل حاضر في كل المُناسبات سواء أكانت سعيدة أم حزينة، وذلك ظَهَرَ جلياً عند وفاة والدته، فقد تدافع الناس بصُورةٍ مهولةٍ، حتى إن الروايات تقول إنّه صَعَدَ على رأس سيارة (لاندروفر) لكي يشكر الناس على مجيئهم ومُشاطرته الأحزان.

(3)
ويُردِّد الكثيرون أنّ لقب (الضلالي) الذي تمّ إطلاقه على الهادي لا يمثل الحقيقة، فهو رجلٌ صاحب نُكتة وخفيف الظل وليس بـ(ضلالي)، ولكنه لم يكن يكترث لهذا الأمر بقدر ما كان يهتم لسعادة الناس، ومن طرائفه أنّه ذات مَرّة وفي أيام حل الحزب الشيوعي، قام الطلاب بعمل تظاهرات شديدة.. وشارك الهادي في هذه التظاهرات والهتافات كانت ساخنة مثل: (قرار الحل قرار فاشستي) و.. (داون داون يُو أس أيه).. وكان قائد قوات الأمن وقتها الضابط بدر الدين أبو رفاس، فتم القبض على الطلاب ولم يتم القبض على الهادي، الذي غَضِبَ من العسكري الذي لم يقترب منه، فجاء وهو يهتف أمام أبو رفاس الذي نظر إليه قبل أن يقول له: (يا زول ما تكورك ساي.. والله لو بقيت لينين ما حنقبضك).

(4)
بخلاف الخزين والضلالي، نجد أنّ العاصمة كانت قديماً تضج بالظرفاء، ومن أبرزهم (علوب) الذي تعرفه العاصمة جيداً، كَمَا تعرفه دوائر الطرب، وأيضاً (حمادة) سائق الدراجة الشهير الذي يقول إنّه (أشهر من وارغو)، ويَقُوم بالتنقُّل بدراجته وسط العاصمة بصُورةٍ تجعل كل من يُشاهده ينفجر من الضحك، وخلافهما من النماذج المُتعدِّدة لملوك الطرفة والنكتة في العاصمة القومية.

(5)
المُلاحظة التي رصدتها (كوكتيل) هو الاختفاء الكبير والانخفاض الملحوظ لظُرفاء المدينة، بعد أن كانوا قبل سنواتٍ يمثلون نبضاً للعاصمة، وهو الأمر الذي دفع بالكثيرين للتساؤل حول مَصير تلك الممالك التي شيّدها أولئك الناس، وما هو مصيرها في المُستقبل، بعد أن أصبحت عروشهم خَاليةً، وأصبحت معها العاصمة تبحث عن ضحكةٍ في زمانٍ عَزّت فيه الابتسامة.. فهل تحمل مُقبل الأيام (خزيناً) جديداً.. أم تنتهي حكايات ظُرفاء المدينة، وتصبح مُجَرّد حكايات تتداولها الأجيال جيلاً بعد جيل..؟!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.