ومتى تتحرر الطبقة السياسية والعسكرية؟!

(1)
تمر اليوم الذكرى المائتين لسقوط سلطنة سنار باحتلال حملة محمد علي باشا لعاصمتها في 21 يونيو 1821. تعددت أسباب الغزو التركي، إلا أن حصيلة ستة عقود لحكمه كانت تشكيل القواعد المؤسسة للدولة السودانية الحديثة، وإن كانت ثمة معطى أساسي لتلك الحقبة فهي أن السودان بتركيبته السياسية الحالية صنعته في واقع الأمر إرادة وأجندة أجنبية بامتياز، وقد ظلت تهيمن على مسارات مفصلية في تحديد مصيره حتى اليوم باستثناء فترة الثورة المهدية ودولتها التي أنهت احتلالاً أجنبياً، قبل أن تقضي عليها موجة احتلال أجنبي ثانية تحت التاج البريطاني أسهمت بالمزيد من التأثير في ترسيخ البعد الخارجي في صناعة مصير البلاد، ومن هناك بذرت جذور الاختلالات الهيكلية في بنية الدولة السودانية ونظامها السياسي المعتل التي لا تزال حاضرة تهيمن بقوة على مسارها حتى اليوم.
(2)
واللافت في هذه الخصوص أن النخبة السودانية، بشقيها المدني والعسكري، منذ تأسيس الحركة السياسية نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، ولحقتها بسنوات قليلة بعد ذلك تأسيس النخبة العسكرية بإنشاء قوات دفاع السودان، ظلت على تعاقب الحقب مشدودة بعقيدة صماء شديدة الإيمان بمحورية الدور الخارجي في الشأن السوداني، ويرافق ذلك عجز مستدام عن القدرة على التصدي الذاتي لتحديات الأجندة الوطنية، واستحقاقات بناء الدولة السودانية بهوية معبرة عن أمة سودانية متماسكة، ومشروع وطني مستقل جامع، ويفاقم من قلة المروءة الوطنية إدمان النخبة على الهروب من مواجهة القصور الذاتي إلى استجداء الحلول الأجنبية والدوران في فلكها، ومهما بدت مبرراتها ملّحة في ظاهرها فقد ثبت أنها لا تخدم في خاتمة المطاف إلا أجندة الخارج على حساب المصالح الوطنية.
(3)
ولا يحتاج الأمر إلى كثير اجتهاد لإثبات تعلق النخب المدنية والعسكرية على حد سواء بالحلول الخارجية، ووقائع التاريخ تقف شاخصة، فالحركة السياسية نشأت على انقسام في صراع مستميت حول تفضيل حلول للقضية السودانية لا تنفك عن ربطه بأجندة بالخارج كما كان عليه الحال في عهد الحكم الثنائي، وعلى ذلك تأسست العلاقات السياسية، والنظام السياسي نفسه لدولة ما بعد الاستقلال، وليسهم تقاطع المصالح الأجنبية في إذكاء نيران الصراع بالأدوات المحلية، وأصبحت قضية الاستقلال نفسها دائرة في هذا الفلك لا تكاد تغادره.
(4)
ولم يقتصر الأمر على الأحزاب التقليدية، بل امتد ليشمل حتى الأحزاب التي نشأت تحت لافتة التحرر والتحديث، فالأحزاب الأيدولوجية جميعها لم تولد في تربة سودانية أصيلة، بل زادت الطين بلة وهي تتكئ على أيدولوجيات مستوردة أيضاً، صحيح أن بعض هذه القوى “الحديثة” اجتهد لتوطين دعواته، ولكن غلبة الأسر الأيدولوجي المستورد جعلها وفية لأجندة ومصالح وخطاب تنظيمات خارج الحدود، صحيح أن هناك محاولات محدودة لبناء قوى سياسية ذات منشأ وطني، لكنها ظلت خارج التأثير الذي سيطر عليه التيار العام للحركة السياسية المشدودة للخارج، ولم تلبث أن لحقت هي الأخرى بركب الرهان على المدد الخارجي وهو ما ظهر بجلاء في السنتين الماضيتين.
5))
ولعل ضعف النوازع الوطنية عند غالب الحركة السياسية ذات الارتباطات بالأجندة الأجنبية جعلها تتورط جميعاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما في اللجوء للخارج والاستعانة بأنظمة وأجهزة مخابرات أجنبية لممارسة المعارضة السياسية، تحت مزاعم أن ذلك سبيل مشروع لمناهضة الأنظمة العسكرية الشمولية، التي تورطت نفسها في مراحل مختلفة في التآمر معها لحسم صراعاتها في فترات الحكم المدني على قصرها. ولم يكن ذلك أبداً حتمياً فقد كان بوسعها أن تناضل وتدفع التضحيات مهما كانت غالية الثمن لهزيمة الديكتاتورية طالما آمنت حقاً بقضيتها، وهناك الكثير من نماذج الصمود لمعارضات في كثير من البلدان صبرت على هويتها الوطنية حتى انتصرت، ولكنها لم تخضع أبداً لإملاءات الخارج ولم ترتم في أحضان.
(6)
والأنكى أن غالب القوى السياسية السودانية لم تكن ترى في ذلك على الإطلاق حرجاً ولا مذمة وطنية، ومن السذاجة بمكان أن يتخيل أحد أن تمويل العمل المعارض من دول أجنبية بالمال والسلاح يتم تقديمه لأجل تحقيق الديمقراطية في السودان، وللمفارقة من أنظمة هي نفسها غارقة في الشمولية، وبالطبع لا شيء مجاني فالفواتير واجبة الدفع والسداد في كل الأحوال، ومن يقع عليه دفع الثمن الحقيقي في نهاية الأمر هو المواطن السوداني المختطفة مصالح بلاده لصالح أجندة حزبية ضيقة.
والسؤال إلى أي مدى تؤثر هذه المعطيات والارتباطات الأجنبية للحركة السياسية السودانية في مأزقه اليوم، وما هو المخرج من الأزمة الوطنية المتطاولة؟! ونواصل بإذن الله

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.