قراءة خارج الصندوق (3)

نصف رأي || خالد التيجاني النور

شارك الخبر

(1)
انتهينا للتساؤل في المقال السابق من هذه السلسلة التي تناولت حراك السيد رئيس الوزراء الأخير للتساؤل عن سبب التشظي في الساحة السياسية والعسكرية الذي جعل مصير البلد على المحك مما دعاه لابتدار تحركه الأخير.
لا شك أن هذه التشظي لم يحدث صدفة ولا اعتباطاً، بل هو نتيجة عملية وموضوعية للصراع من أجل السيطرة على السلطة والثروة بين مكونات الشراكة التي عُهد إليه بخدمة مهام الانتقال وحمايته أجندته حتى تفضي إلى تمكين الشعب من الانتخاب بخياره الحر لمن يسند إليهم إدارة البلاد وفق عملية تحوّل ديمقراطي حقيقية، ولكن ما حدث أن هؤلاء الشركاء، بأجنحتهم المختلفة من العسكريين والمدنيين وحتى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، قرروا الانخراط في عملية عبر تحالفات تحت الطاولة للانقلاب على مهام الانتقال الحقيقية بمصادرة حق الشعب وسلب إراداته في اتخاذ قراراته المصيرية.
(2)
وشرعوا دون تفويض شعبي حقيقي في فرض أجندتهم، وتغافلوا تماماً عن الوفاء بأي استحقاقات دستورية في اتجاه تمكين الشعب من ممارسة حقه في الاختيار بوصايا مفضوحة تمارسها نخبة وتنظيمات تعرف أنها بلا رصيد ولا جذور مجتمعية، لذلك سعت لاختطاف الفترة الانتقالية، وتحويلها من فترة مؤقتة بمهام معلومة وصلاحيات تحضيرية محددة، إلى العمل من أجل استطالتها وتمديدها إلى أجل غير مسمى عبر تحالفات لخدمة هذه الأجندة الضيقة بلا تفويض شعبي، وإذا اختلف المختطفون ظهر التشظي نتيجة لهذا الصراع العبثي على السلطة والثروة بين من لا يملكون ولا يستحقون.
(3)
سنعود لاحقاً، إن شاء الله، لمناقشة تفاصيل أسس التسوية السياسية الشاملة، ومقترحات الطريق للأمام التي أوردها السيّد رئيس الوزراء في خطابه “كأساس لأي تسوية سياسية تبعد شبح الأزمة الحالية وتفتح الطريق نحو الانتقال الديمقراطي”، إلا أنه من المهم الإشارة هنا إلى أن الوثيقة التي جرى توزيعها باعتبارها نص “مبادرة رئيس الوزراء”، والشروحات التي قدمها طائفة من المقربين منه، تفتقر إلى التوازن المطلوب لاستحقاقات إجراء عملية إصلاح حقيقية شاملة ومتكاملة، وأكاد أزعم أنها لا تعكس الروح ولا القناعات التي ظل يتحدث بها الدكتور حمدوك في المنابر العام لفترة طويلة، ولعلها تعكس انشغالات الذين عهد إليهم السيد رئيس الوزراء بكتابة هذه الورقة، سواء كانت بدوافع أجندة ذاتية أو لحساب أطراف أخرى.
(4)
ويلاحظ ذلك بوضوح على وجه المثال في التركيز اللافت على مسألة “إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية” باعتبارها أولوية وحيدة خارج عملية إصلاح شامل مطلوبة بشدة، في حين تجاهلت تماماً أية إشارة للحاجة الملحة أيضاً لإصلاح مماثل للمنظومة السياسية، لدرجة أنه لم يرد بشأنها ولا حتى جملة واحدة، ومحاولة القفز على دور الجانب المدني وتبرئته وتجنب تحميله مسؤولية أصيلة أيضاً في الانهيار الذي أسهب الخطاب في وصفه، سيقدح في جدية هذا المسعى من قبل رئيس الوزراء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد يعزّز من التكهنات الرائجة بأن التشديد فقط على إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية، على أهميته وضرورته، ليس مطلباً وطنياً أصيلاً، بل أملته حسابات أطراف خارجية، لا سيما أن هذا التحرك يأتي بعد أيام قليلة فقط من خطاب لرئيس بعثة يونيتامس شدّد فيه على هذه المسالة تحديداً، ودعت له أطراف دولية أخرى كذلك.
(5)
لكل ذلك فإن هناك خيطا رفيعا يفصل بين أن يكون خطاب السيد رئيس الوزراء فرصة ذهبية لإعادة ضبط مهام الانتقال وأجندته، وتفعيل مؤسساته الدستورية من منطلق يتجاوز الأجندة الضيقة لهذا الطرف أو ذاك، داخلياً أو خارجياً، ليصبح تحركاً مدفوعا بالاستجابة لأجندة ضيقة، أو أن يفارق هذا المعيار ليكون مجرد مناورة تؤدي إلى المزيد من الفرز والاستقطاب على الساحة الوطنية، ومستغلاً من أطراف خارجية لخدمة أجندته، وحينها سيتحول هذا التحرك من وسيلة لإنقاذ البلاد إلى أداة لتسريع الدخول في نفق اللاعودة بإتجاه ألا يكون.
لم يعد السودان يملك ترف المناورات الصغيرة ولا الأجندة الضيقة، كما لم يعد يملك ترف إعادة اختراع العجلة، ولا البداية من الصفر، هناك مرجعية دستورية محددة المهام، والآليات والمؤسسات والصلاحيات، يجب أن تعمل بدون إبطاء، ومحاولة افتراع طريق آخر بدون هذه المحدّدات المرجعية سيقود لا محالة إلى السيناريو الأسوأ، ولا منجاة فيه لأحد.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.