المسروق!

(1)
إن كانت ثمة جملة واحدة تلّخص مردود عامين على حراك 19 ديسمبر الثوري فهي بلا شك أنه المستقبل المسروق لثورة الجيل جديد بامتياز، فقد كان العامل الأهم والدافع للتغيير هو حدوث عملية تراكم وعي شبابي منتظم في العقد الأخير، شهد السودان خلاله تحوّلات مهمة في تفاعله مع الشأن العام عبر انخراطه في العديد من المبادرات الهادفة لخدمة المجتمع، وكذلك في رفع الوعي السياسي وفق مفاهيم جديدة عبر حوار عميق وسط مجموعات عديدة انخرطت في نقاشات جدية حول قضايا البلاد العامة، وشارك فيه شباب من الجنسين مستقلين أو من خلفيات وتيارات سياسية متعددة، أسهمت هذه المبادرات الاجتماعية، والحوارات الشبابية العابرة للأجندة الحزبية والأيدولويجية في طرح قضية إعادة تعريف السياسة السودانية، ونجحت في تشكيل شبكة علاقات متضامنة واسعة ترفع مطلب التغيير، وبدأت تنشط في فضاء خارج الأطر التقليدية للنظام السياسي السوداني القديم.
(2)
بدأت سرقة مستقبل الجيل الجديد باختطاف الطبقة السياسية القديمة المحترفة للعبة السلطة قيادة الحراك ومن بعد ذلك احتكار تمثيل أجندة التغيير وإدارة الانتقال لصالح أجندتها الذاتية وليس أجندة الوطن ولا لتحقيق تطلعات الشباب، وفيما لا تزال تداعيات ثورة ديسمبر تتفاعل بعد عامين، تشير المعطيات الراهنة من واقع مواقف وممارسات هذه الطبقة بشقيها المدني والعسكري على حد سواء، المتصارعة على تطويع الفترة الانتقالية لمصالحها الذاتية وتوظيف فترة الانتقال كـ غنيمة لصالح أجندتها السلطوية الضيقة، إلى أنه سيكون أمراً بعيد المنال التوقّع بأن تسفر مجمل التفاعلات الراهنة عن تأسيس نظام سياسي جديد يقطع مع تجربة النظام السابق، أو أن يحقق تحوّلاً نوعياً في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة لينتج نظاماً مدنياً ديمقراطياً مستداماً مغايراً، لقد تبدلت الوجوه وبقيت الممارسات ذاتها التي تشكل المشهد العاجز الراهن.
(3)
ذلك أن الطموحات الثورية التي حرّكت الجيل الجديد كانت تتطلع إلى إحداث قطيعة جذرية مع قواعد بنية الدولة السودانية الهشة والمأزومة تاريخياً، ليس مع نظام الانقاذ فحسب، بل مع النظام السياسي السوداني القديم برمته الذي ظلت معادلاته المختلة وعجزه تسيطر على الحياة السودانية لقرن كامل، والتي فشلت فشلاً ذريعاً مع كل الفرص التي أتيحت لها، عن إحدث أي تغيير حقيقي مع تعاقب الأنظمة وتواتر الانتفاضات، ومن الواضح فإن التعبير السياسي عن هذا التميّز الجوهري في طلب التغيير الجذري للجيل الجديد لا يزال غائباً، فقد أعادت النخبة السياسية القديمة التي سيطرت على سلطة الانتقال نمط الصراع الموروث نفسه حول المكاسب من كيكة السلطة، وليس حول مفاهيم ومهام انتقال أكثر عمقاً تستجيب لاستحقاقات تحوّل نوعي في مسار مستقبل الدولة السودانية بما يتفق وتطلعات جيل جديد منشغل بأجندة المستقبل أكثر مما هو مشدود للماضي بكل إخفاقاته.
(4)
وتؤكد حالة السيولة والاضطراب السياسي والاجتماعي الراهنة، وغموض مستقبل الانتقال الذي تحول من حلم إلى كوابيس، عجز نخبة النظام السياسي السودان القديم وفشلها في التقدم مرة أخرى لقيادة المرحلة وملء الفراغ، وآية ذلك عدم القدرة على التوافق على الحد الأدنى من مشروع جديد لبناء الدولة وسط عجز سياسي بنيوي وعدم قدرة على استشراف رؤية وطنية جديدة، ولذلك أعادت إنتاج سيرتها القديمة المتسمة بالانقسام والتشرذم وسط بزوغ المشاريع الحزبية والفئوية المتنافسة لتحقيق
المكاسب الضيقة في السوق السياسي القائم على مفهوم عقد الصفقات بين النخب لاقتسام السلطة والثروة التي كانت أحد أبرز أدوات نظام الإنقاذ، ودخلت القوى العسكرية أيضاً في هذه اللعبة تحاول الاستفادة من اهتراء المجتمع المدني والسياسي لضمان الحفاظ على امتيازاتها.
(5)
ويعقّد من المشهد كثافة التدخلات الخارجية الساعية لتطويع ترتيبات الفترة الانتقالية لخدمة أجندتها المتنافسة والمتناقضة مع المصالح الوطنية، وسط إظهار العديد من أطراف المعادلة الراهنة، من العسكريين والمدنيين، تماهيها مع بعض المحاور الأجنبية على نحو غير مسبوق، مما يكشف مدى غياب الإرادة الوطنية لديها وتأثير ذلك السلبي في تحديد مستقبل السوداني السياسي.
ومع استمرار سيطرة عقلية النظام السياسي القديم، وبقاء الجيل الجديد خارج دائرة الفعل بحسابات المعادلة الراهنة، فإن إعادة إنتاج فترة انتقالية هشّة باتت هي الواقع هي الأمر الغالب، كما أن فرص حدوث تحوّل ديمقراطي حقيقي تنضاءل بشدة في ظل غياب رؤية مستقبلية مستجيبة لتطلعات الشباب، مع الافتقار لإرادة وقيادة حاسمة لتغيير جذري لبنية لنظام السياسي السوداني القديم، مما يرشحّ استمرار الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.
وفي غياب أية رغبة أو استعداد لإصلاح جذري حقيقي للمنظومة السياسية بكاملها، فهل تصحو الأجيال الجديدة لتلتقط القفازمن جديد لتستعيد مستقبلهما المسروق، أم تكتفي بالحسرة أو لعب دور الإمعة؟

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.