سقوط مهين لأيدولوجية”الهندسة الاجتماعية”

نصف رأي || خالد التيجاني النور

شارك الخبر

(1)
سيظل مشهد أفغان تعلقوا بطائرة سلاح الجو الأمريكي تستعد للإقلاع من مطار حامد كرازي طلباً لنجاة مستحيلة أيقونة هذا الحدث بلا منازع، فقد قال كل شي، وكان بليغا في رسم دلالات ما يحدث على درجة تغدو معها أي محاولة لتفسير ما جرى أدنى فصاحة بما لا يقارن.
ومع ذلك فإن التطورات المتسارعة التي شهدتها الساحة الدولية بالهروب الكبيرللقوى الكبرى من الساحة الأفغانية، وعودة طالبان بعد عقدين من كل محاولات محوها، تتيح زوايا نظر عديدة لقراءة المشهد الذي بدا مثيرا ومفاجئاً للكثيرين، وإن كانت إرهاصاته قد تم التمهيد لها على مدى أكثر من عام، إلا أنه مع ذلك ي ثبت أنه لا تزال هناك مساحة كبيرة للتدبر وسبر أغواره، وفي إدراك عبر هذا المشهد بكل غرابته، ذلك أن مثل هذا السقوط المدوي للتدخل الدولي لم يكن الأول من نوعه، كما لن يكون الأخير، فقد سبقته مشاهد مماثلة جرت بأقدار مختلفة الملابسات في الحالة الفيتنامية قبل نحو خمسة عقود، وكذلك في الحالة الصومالية في تسعينيات القرن الماضي، وهذه المرة أفغانياً، وسيكون مرشحاً للتكرار مرات أخرى ما لم تعترف القوى المهيمنة دولياً بأن إيمانها بسقوط أيدولوجيتها ل “الهندسة الاجتماعية” للمجتمعات الأخرى لم يعد محل جدال.
(2)
حاجج الأكاديمي الأمريكي جيمس سي. سكوت في كتابه “رؤية مثل الدولة” الصادر عن جامعة ييل في العام 1998، منتقداً نهج استخدام سلطة الدولة وقوتها في محاولة لإعادة تشكيل المجتمع بأسره، مع التجاهل التام لإرث المعرفة التقليدية العملية وعمق تأثير منظومة الحكمة التقليدية لهذهالمجتمعات المحلية، واصفاً الأمر بأنه أشبه ب “غارات على المجتمعات بغرض إعادة تشكيلها” وتنتهي غالباً بفشل ذريع لأنها تعجز عن قراءة ومواكبة حيثيات وإمكانية التطور الطبيعي لهذه المجتمعات من داخل نظمها..
جاء تأليف الكتاب للإجابة على تساؤل عن كيف انتهت محاولات بعض المشروعات لتحسين حياة الناس إلى نتائح عكسية، متخذاً نماذج من بعض الأيدولوجيات الشمولية التي حاولت صنع نموذجها ل”الحداثة العالية” التي تؤمن بقدرة سلطة “الدولة” و”العلم” في إعادة تشكيل الطبيعة والإنسان، ضارباً بمثل بتجربة المزارع الجماعية في الاتحاد السوفيتي، وتجربة “القرى الجماعية” في تنزانيا على أيام نيريري. ولكن سكوت لم ينظر للجانب الآخر وأن الأمر لا يقتصر على الأنظمة المستبدة.
(3)
وعلى الصعيد الآخر يحاجج منتقدو سكوت بأن نهج “الهندسة الاجتماعية” وفق رؤية “الحداثة العالية”بات أكثر وضوحاً في أيدولوجية “النيوليبرالية”في الوقت المعاصر، مثل في ذلك نهج التخطيط من أعلى إلى الأسفل، حيث تعمل على فرض نموذجها القيمي في تجاهل تام لتعقيدات تركيبة ومنظومة قيم المجتمعات وحكمتها التقليدية الحقيقية.
ولعل الهزيمة الحقيقية للتحالف الغربي في أفغانستان تتبدى في أكثر صورها وضوحا، ليس فيما يلي الجانب العسكري ولا السياسي ولا الاقتصادي بكل تعقيداتها، بل يأتي في هذه الخلاصة الحاسمة، أنه بعد تدخل غربي بإئتلاف واسع، وبعد أكثر من عقدين، ومع إنفاق أكثر من تريليون دولار، ومع دعم بلا حدود، مع ذلك فإن الفشل لا يقتصر على العجز في بناء جيش يستطيع القيام بواجبه، بل تحقق في سقوط نموذج الدولة التي حاول الغربيون بقيادة الولايات المتحدة هندستها وتصنيعها في أفغانستان لتتواءم مع منظومة القيم النيوليبرالية، لقد انهارت ببساطة في لمحة عين لتتأكد استحالة أي محاولة لاستزراع منظومة قيمية خارج بيئتها مهما تدثرت بمعطيات الحداثة العالية من العلم والتكنلوجيا وسطوة القوة العسكرية المتفوقة.
(5)
لم ينس الرئيس جو بايدن في بيانه الأخير عن ملابسات الخروج من أفغانستان الحديث عن “حماية مصالحنا وقيمنا”، وهي الحجة نفسها التي ساقت الرئيس بوش لاعتبارها مبررات التدخل في أفغانستان، لقد انتهت المغامرة بوصف الرئيس بايدن لما يحصل هناك بأنه “اقتتال أهلي” وأنه لم يعد بوسعه إرسال المزيد من القوات الأمريكية “للقتال مرة أخرى في صراع أهلي في دولة أخرى”، لم يكن الأمر يحتاج إلى كل هذه الخسائر البشرية والمادية، وإزهاق ما لا يُحصى من دماء الأبرياء الأفغان للوصول إلى هذه الخلاصة البديهية فالصراعات الأهلية يمكن معالجتها بالحكمة التقليدية لمجتمعاتها، ولا يزيدها ضغثاً على إبالة إلا التدخلات الأجنبية الانانية التي تحاول فرض حلول مستوردة لخدمة مصالحها على حساب هذه المجتمعات.
ما حدث في أفغاتسان لا يمكن وصفه بغير أنه هزيمة أخرى منكرة للمحاولات إلأجنبية عادة تشكيل المجتمعات، التي تثبت مرة أخرها أنها نهج فاشل بامتياز، فاشلة حتى في تدبير ورسم سيناريو انسحاب أقل إهانة من الذين شهد عليه العالم أجمع.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.