عادل الباز.. ما بين السكرة والتوهان

أجندة || عبد الحميد عوض

شارك الخبر

 

(1)
عكاشة محمد أحمد، رجل أعمال إسلامي قُح، تربي في كنف الحركة الإسلامية، وتدرج في أمانتها بجامعة الخرطوم، وشغل منصب المسئول المالي لاتحاد طلاب الجامعة الذي فاز به الإسلاميون مع دورة محمد خير فتح الرحمن، وحينما نادى مُنادي قتالهم في الجنوب، حمل سلاحه وخاض المعارك، وتلك كانت أعلى شهادة لدى الحركة، لا تحتاج بعدها لتثنية.
في رمقه الأخير، أي في مطلع العام 2018 أطلق نظام الإنقاذ حملة على القطط السمان، انتدب لها الفريق صلاح قوش كمدير جهاز الأمن والمخابرات العامة، ورعاها المخلوع عمر البشير بنفسه، وفيها تم اعتقال عكاشة محمد أحمد، ضمن عدد من رجال الأعمال المتهمين بالفساد، فتعرضوا خلال اعتقالهم لصنوف من الترهيب، والابتزاز، والضغوط النفسية، وأرغموا صاغرين على القبول بتسويات تنازلوا فيها عن كثير من أملاكهم مقابل إطلاق سراحهم، ولم يتحمل عكاشة محمد أحمد فداحة الضغوط النفسية والابتزاز، فأقدم- حسب الرواية الرسمية- على الانتحار داخل أقبية جهاز الأمن.
الحادثة، لم تحرك ساكناً وسط الإسلاميين، ولا كُتابهم ومواليهم، الذين تواروا عن الإدانة والمطالبة بالتحقيق والمحاسبة، ولم ينادوا بوقف الحملة، ومضوا جُبناً ومصلحة، في التطبيل والتصفيق لها، عكس ما يفعلونه الآن تجاه قرارات لجنة إزالة التمكين، حيث يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب بعد أي قرار للجنة.
(2)
عادل الباز، ناشر ورئيس تحرير صحيفة الأحداث، مع الاحترام وحفظ حق الزمالة، واحد من المهللين والمكبرين لحملة القطط السمان، لم تردعه طبيعتها الأمنية، ولا تجاوزاتها القانونية، ولم تهزه فاجعة انتحار عكاشة، ولا فشل الحملة، وآثارها الواقعية في زيادة سعر الدولار، وخلق أزمة سيولة نقدية لم تشهد البلاد مثلها من قبل .
ظهر تأييد الباز بعد إعادة تعيين صلاح قوش من جديد كمدير لجهاز الأمن، بعد طرده في عام 2009، وعد التعيين، بداية لمطاردة القطط السمان في السودان، طبقاً لما جاء في زاويته بصحيفة الوطن القطرية في 19/2/2018، وفي فترة لاحقة، ساعد رئيس تحرير الأحداث، حملة القطط السمان بعدد كبير من المقالات، يشخص فيها ظاهرة الفساد، ويُبين مكامنه، ويسدي النصح تارة وتارة أخرى يقدم مقترحات تشمل أفكاراً لمصادرة أموال البنوك المشتبه فيها، قبل تقديم أصحابها للمحاكمة، ولم يهتم مطلقاً بمزاعم خطأ وخطل تتبع الحسابات البنكية ولا بتشهير الحملة لسمعة رجال الأعمال ولا بهز الثقة في البنوك.
(3)
من المفارقات المضحكة والمبكية في آن واحد، أن عادل الباز، وبذات القلم الذي يكتب به، ومن نفس الزاوية الصحفية “فيما أرى”، وبنفس الصورة والنظارة الطبية، ينبري،هذه الأيام، ضد قرارات لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة. ومن اللافت جداً أن مقالاته تحظى باحتفاء كبير من فلول النظام البائد وشيعته الذين صمتوا أيام حملة قوش، ووصل حد الاحتفاء عند الكاتب محمد عثمان إبراهيم، بالباز أن وضعه على قصر السلطة، وذلك في مقال خطه إبراهيم من ملجئه في استراليا.
لسنا هنا في معرض الدفاع عن لجنة إزالة التمكين، ولا معترضين على حق الباز في انتقاد اللجنة، ولا الدخول في مقارنات بين حملة القطط السمان، ولجنة إزالة التمكين، لكننا هنا فقط، نرصد تناقضات الاستاذ عادل الباز بين سكرته المؤيدة لحملة قوش الأمنية، وبين توهانه في معارضة لجنة إزالة التمكين.
(4)
واحدة من أهم دوافعه، للاعتراض على لجنة التمكين، هو خوفه على مصير ومستقبل البنوك، بعد أن ضربتها لجنة التمكين بتجميد أموال المشتبهين بشكل عشوائي “اليوم التالي 22 أغسطس 2021″، والنتيجة المتوقعة عند الباز، هى هروب الأموال من البنوك التي ستصاب بالفقر، وحدوث أزمة الكاش، وتوقف البنوك عن التمويل.
لا أدري لماذا لم يحذر الباز من تلك الكوارث، وهو يخوض في تأييد حملة قوش التي -كما قلنا – تسببت في أكبر أزمة سيولة، ورفعت سعر الدولار، ولا أدري سر الازدواجية في المعايير والأحكام، هل لأن تلك الحملة ينفذها حزب الباز، أم لأن ” قايدا صلاح .. قايدا صلاح” بالتالي نفهم دافع سكرة التأييد الأعمى؟
ومن العجب العجاب، أن عادل الباز الذي يتباكى على البنوك اليوم، ويقدمها في صورة وردية، تقوم بتمويل مشاريع الإنتاج ، وتوفر السيولة لعملائها، ولا تهرُب منها الأموال، كان أكثر حماساً على ملاحقة البنوك في حملة القطط السمان، لأنه- وحسب تقديره في مقال نشره في 15/10/2018 – يوجد بها 90 بالمائة من الفساد في الدولة، وحديثه الموثق عن البنوك لم تقُله لجنة إزالة التمكين الآن، و لم يقله مالك في الخمر، والمغالط يعود للمقال بعنوان “القطط السمان.. كيف سمنت؟” بتاريخ 10/4/2018، وفيه يؤكد الباز، أن المصارف فتحت أبوابها للقادمين الجدد من ذوي النفوذ المالي والسياسي، ومنحت القروض بالمليارات ومن دون ضمانات كافية، ولم تُستثمر في الإنتاج، بل في المضاربات التجارية. ويشير أكثر إلى أن السيولة الهائلة التي توفرت بين يدي القلة، غذت طبقات طفيلية تتعامل في الاقتصاد الأسود، والسوق الموازي للعملات الصعبة، وغسل الأموال والتهريب.
بعد الصورة السوداء التي رسمها الباز للبنوك السودانية، وفي مقال آخر لمجالس إدارتها، وصورة ثالثة أكثر سوادا لفشل رقابة بنك السودان عليها ، هل لعاقل التعاطف مع البنوك حتى لو تمت إبادتها من الوجود كلياً؟ ام أن للتعاطف أغراضا أخرى في هذه الفترة بالذات؟
(5)
يقول عادل الباز في مقاله المنشور بتاريخ 22 أغسطس الماضي بصحيفة (اليوم التالي) إن لجنة التمكين انتهت إلى جهاز أمني وقضائي وتشريعي بسلطات مطلقة تفعل بها ماتشاء، وأن أخطر ما تخوض فيه اللجنة الآن بغير هدى ولا معرفة هو تفكيك الاقتصاد نفسه، هنا يتجاهل الباز أن اللجنة معنية أولاً بتفكيك بنية “تمكين” النظام المخلوع في البنوك وغيرها من القطاعات، ومع هذا أتفهم كل من يعترض على ذلك، إلا عادل الباز، لأنه وفي غمره تأييده لحمله صلاح قوش، شدد على إزالة “التمكين” كشرط لضمان نجاح الحملة والإصلاحات الاقتصادية المطروحة عامئذ، ونصح الحكومة بأن” تبرأ الخدمة العامة من سياسات التمكين” دون أن يقدم تصوراً لذلك، ولم يكن مطروحاً يومها سياقٌ لإزالة التمكين غير حملة القوش الأمنية التي يؤيدها، مما يظهر حجم التناقض والارتباك.
(6)
قامت لجنة التمكين قبل ايام بتجميد وحظر حساب مصرفية، ولم تصادرها كما يروج الباز ، وتقول اللجنة انها تحرت أولاً وذهبت للنيابة ثانيا لتحريك إجراءات قانونية، وكل شيء تم بموجب القانوني الطبيعي وليس قانون الأمن ولا عبر إجراءات الطوارئ ، فبادرت النيابة عقب ذلك بالإشراف على بقية الإجراءات، وحتى هذه اللحظة الموضوع كله يصنف تحت دائرة الاشتباه، ولم تصل لمرحلة مصادرة الأموال، وهو أمر، كما هو واضح، متروك لمرحلة التقاضي أمام القضاء الطبيعي.
لم يرق ذلك لعادل الباز، فاحتج على المصادرات والتشهير دون حكم قضائي، ولنقارن ما قامت به اللجنة، مع ما قامت به حملة القطط السمان المدعومة من المخلوع البشير، والمقارنة نكرر أنها ليست مقصودة بحد ذاتها، إنما المقصود هو الكشف عن تناقضات عادل الباز في الحالتين، فحملة قوش حملة أمنية بامتياز، اعتقلت رجال الأعمال بطريقة غير قانونية، وأودعتهم معتقلات الأمن، لا حراسات الشرطة، ومارست، كما قلت، كل انواع التشهير و الترهيب والابتزاز، فرضخوا صاغرين لتسويات اجبارية، تنازلوا فيها عن أموالهم وممتلكاتهم، لكي يخرجوا من بيوت الأشباح سالمين، وإلا يضطروا للانتحار، ودعنا نسأل السيد الباز إن اطلع، بحكم قربه من قوش، على أي حكم قضائي في ذلك الوقت؟ وقبل أن يجيب دعونا نذهب لنرى موقفه من تلك المصادرات وأفاعيل حملة قوش:
كتب الرجل بتاريخ 14/11/2018 مقالاً بعنوان “مأزق التسويات” صدره بمقدمة جاء فيها:
(كنت أعتقد أن الحكومة ستجد نفسها في مأزق يتعلق بمصداقيتها في محاربة الفساد ولكن حين رأيتها تأكل أموال التسويات أكلا جما دون أن يطرف لها جفن ودون أي حساسية تجاه مصداقيتها في محاربة الفساد علمت أنها لا تأبه لأي شيء، كل الذي يعنيها أن تستولي على أموال التسويات وتعيدها إلى خزائنها الخاوية)
ولتبرير استيلاء الحكومة على أموال المتهمين، دون حكم قضائي، ذكر الباز في مقاله أن الحكومة تفعل ذلك لأنها وجدت نفسها في ورطة ورأت أنه قد لا تسعفها القوانين التي تحت يدها للخروج منها. ورطة تتعلق بطبيعة الجرائم المرتكبة وأغلبها جرائم تتعلق بالتحايل على قوانين البنوك ونهب الأموال بمرابحات صورية أو تهرب من الضرائب أو غسيل، أما الورطة الأخرى- والحديث للباز- أن قضايا الأموال المنهوبة تأخذ زمنا طويلا في المحاكم قد يمتد لسنوات فتفقد الأموال قيمتها حتى لو استعادها الحكومة كاملة. وورطة ثالثة يضيفها الاستاذ عادل وهي انه نهض للدفاع عن قضايا الفساد محامون كبار معروفون بمهاراتهم في لولوة القضايا ولي عنق القوانين وإطالة أمد المحاكمات بالحق والباطل. للأسف بعضهم من الحزب الحاكم الذي يعلن أنه يحارب الفساد وعضويته تدافع عنه.. انتهى!!
في الحالة الأولى حيث التوهان ، يطالب عادل الباز لجنة التمكين بأحكام قضائية لاسترداد الأموال المنهوبة، وفي سكرة التأييد لحملة القطط السمان يعمل بمبدأ “أغلطوا إنتو يا أحباب، نجيكم نحن بالأعذار، عشان خايفين تسيبونا، عشان خايفين نعيش في ودار”، أو كما قال المغني!
(7)
في ذلك المقال، لم يتوقف السيد عادل الباز عن تقديم الأعذار للحكومة في تسوياتها مع القطط السمان، بل أوصى على الحكومة محاكماتهم بعد التسوية (يعني المتهم يحاكم مرتين بحكم ام تكو) واقترح تجزئة القضايا وتبعيضها كتكتيك ضد القطط، وفي نهاية مقاله اقترح الباز – دون أن يرمش له جفن- استعادة الأموال المرتبطة بالبنوك اولاً، ثم بعد ذلك تمضي القضايا في المحاكم، ومتى ما فرغت المحاكم من عملها يتم النظر في مصير تلك الأموال، وهو جوهر ما يعترض عليه الآن، ويا للعجب.
أستغرب كيف إمتلك الباز الجرأة تلك ليطالب بأحكام قضائية ، وقبلها كان لا يأبه لأكل الحكومة لمال التسويات، و ينادي بالمصادرة قبل صدور الأحكام القضائية .. لا تنه عن خلق وتأتي بمثله، عار عليك إذا فعلت عظيم.
(8)
ما يكتبه الباز وكثير من الإسلاميين ومن شايعهم -في تقديري- جزء من حملة منظمة لتقويض الفترة الانتقالية، لأن بعضهم يشعر بالهزيمة الشخصية ، وبدأت الحملة بالضرب على وتر الغلاء والتدهور الاقتصادي ولم تنجح، ودخلت إلى وتر العلمانية ومحاربة الدين والتطبيع، ولم تجد إذنا صاغية من الشعب، ثم تورطت في فزاعة الانهيار الأمني، وهذه الأيام تستهدف لجنة التمكين.
تلك الحملة الإعلامية أشبه ما يكون، بما فعلته صحافة الجبهة الإسلامية خلال الديمقراطية الثالثة التي هيأت المناخ للإنقلاب على الديمقراطية، وسرقة السلطة، واختطاف الدولة، وهذا ما انتبه له و(بشر) به الأخ حسين ملاسي في منشور له على فيسبوك، اعتقادي الجازم أنه وضع في حسبانه مقالات الباز، حيث قال ملاسي في منشوره (إذا كانت ألوان هى التي أسقطت حكومة 86-89 فـ”اليوم التالي” هى التي ستسقط هذه الحكومة العصية على الاصلاح)، وللتذكير أخيراً فإن الأستاذ عادل الباز، كان واحداً من كتاب صحيفة الراية، لسان حال الجبهة الإسلامية التي نفذت الإنقلاب، وسنعود لارشيفه هناك في وقت لاحق، لتعرفوا جذور الكتابات ومنبعها.

kessamber22@hotmail.com

شارك الخبر

Comments are closed.