أزمة أم حيرة؟!

(1)
مر أسبوع منذ أن تم الإعلان عن تشكيل “آلية عليا لإدارة الأزمة الاقتصادية” حسب تصريح للسيد رئيس الوزراء عقب اجتماع لترويكا الانتقال بمكوناته المدنية والعسكرية لمناقشة كيفية معالجة الأوضاع الاقتصادية الخانقة المتعددة الوجوه التي تفاقمت وطأتها، وعلى الرغم من أن تشكيل اللجنة الطارئة يوحي بتزايد الإحساس بخطورة المآلات المترتبة على ذلك وعواقبه المهددة لمسار التغيير وتبديد مكاسبه، وهو ما يقتضي بالضرورة سرعة الاستجابة لعامل الزمن الملّح، غير أن التباطؤ والجدل الذي رافق تشكيل الآلية وطبيعة مهمتها يعزز من فرضية أنها وجه آخر لتعميق المشكلة لا حلها.
(2)
فقد عكس النقاش الحاد حول من يتولى رئاسة الآلية، وصاحب الأحقية بذلك جانياً من مأزق معادلة تركيبة الانتقال، كما شكّل اختباراً آخر لجدوى وثائقها وترتيباتها وصلاحياتها، فقد قيل بادئ الأمر إن رئاستها أسندت لنائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو، ثم قيل إنه زهد في هذا التكليف، وليس واضحاً أن كان ذلك بدافع ذاتي نتيجة مراجعة لحساباته السياسية لتبعات هذه الخطوة دون ضمانات لمردودها، أم بسبب معارضة لذلك من قبل بعض الأطراف السياسية في قوى الحرية والتغيير التي قرأت في دلالاتها اعترافاً من المكون المدني بفشله عملياً في إدارة الملف الاقتصادي فآثر الاستنجاد بالمكون العسكري لإنقاذه من هذه المأزق، مما يزيد من هيمنته على إدارة الحكم الانتقالي، فانتقال الملف الاقتصادي لينضم إلى سابقيه ملف السلام، وكذلك السياسة الخارجية يعني بوضوح إقراراً مدنياً بالاستقالة من دور الرافعة الأساسية للفترة الانتقالية على الرغم من التحصين الذي حظي به في الوثيقة الدستورية.
(3)
ولعل ما رشح بالأمس عن العودة إلى إسناد رئاسة الآلية إلى رئيس الوزراء، وهو علي أي حال ما يفترض أنه الوضع الطبيعي والمنطقي بحسب الاستحقاق الدستوري، يؤكد أن الآلية الطارئة المنوط بها التصدي لإفرازات الأوضاع المعيشية الصعبة مرشحة لإعادة إنتاج “أزمة الحكم الانتقالي” بكل تعقيداته، حيث تحولت إلى ساحة جديدة للتشاكس بعد ترحيل انسداد الأفق في العلاقات البينية بين مكونات ترويكا الانتقال إليها، في عملية أقرب للهروب إلى الأمام منها إلى مواجهة جذور المشكلة المتعلقة بالتوافق على التوجهات الرئيسية لإدارة الملف الاقتصادي التي يغلب عليها الحيرة وسط تردد الحكومة في المضي قدماً في تنفيذ سياساتها وسط “فيتو” مرفوع من بعض الأطراف المتنفذة في قوى الحرية والتغيير.
(4)
وهذه هي المرة الثانية التي يتم فيها اللجوء إلى مخرج ما لتفادي مأزق الأفق المسدود لعدم التوافق على توجهات وسياسات مشتركة حيال إدارة الاقتصاد بين الحكومة وحاضنتها السياسية، شهدنا ذلك عند اشتداد الجدل حول موازنة العام 2020 التي لا تزال عالقة، فقد جاء اقتراح عقد “المؤتمر الاقتصادي” كنوع من الهدنة لالتقاط الأنفاس، ولتمرير مشروع الموازنة المحكوم بتوقيت ملزم، في حين لا يعدو كونه ترحيل للأزمة لوقت لاحق، وليس هناك ما يشير، على ضوء الترتيبات الحالية لهذا المؤتمر التي جرى إعداده في مطبخ مغلق وفي غياب تام لمشاركة الرأي العام بافتراض أن الغرض منه اصلاً هو إدارة حوار مجتمعي شامل، إلى أنه سيقود إلى نتائج مختلفة في ظل سيطرة منسوبي توجهات أيدولوجية هي ذاتها التي تقود معارضة سياسات الحكومة الحالية.
(5)
في الواقع ليس هناك حلول سحرية يمكن أن تأتي بها “آلية إدارة الأزمة”، فهي فضلاً عن تغولها على مهام وصلاحيات الحكومة ووزاراتها المختصة بغير غطاء دستوري، فإنها ستفاقم من ضعف الإدارة الراهن المشغول بمطاردة الأزمات وإطفاء الحرائق ومحاولة معالجة الأعراض والظواهر على حساب التشخيص الصحيح والعلاج الناجع للمشكلة الاقتصادية الناجمة عن اختلالات الهيكلية في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وهو ما لا يمكن تصحيحه بغير توافق تام على توجهات اقتصادية عملية وفعالة وناجعة، ولذلك فإن أفضل ما يمكن أن تساعده به قوى الحرية والتغيير الحكومة هو التوصل إلى هذا التوافق، وليس المزاحمة غير المجدية في تفاصيل إدارة الأزمات، ذلك أن إنهاء حالة الحيرة التي تعيشها الحكومة وتمكينها من القيادة هو أس الاضطراب الراهن.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.