العلاقة مع إسرائيل.. “خوض البحر”!

دوماً ما أجد نفسي (حَوارياً) لأستاذي خبير التخطيط الإستراتيجي بروفسير محمد حسين أبو صالح، وهو الصادح دوما في آذان النخب والفاعلين في كل القطاعات بأن هلموا إلى إجازة خطتنا القومية وبلورة فكرتنا الوطنية، التي لن نستطيع بدونها التقدم في تنمية الوطن، وسنعجز دونها من التعامل مع الواقع الإقليمي والدولي الذي يمتاز بسرعة التغيرات الجيوسياسية وبناء التحالفات في إطار ما عرف بصراع المصالح؛ الذي بات يتحكم في العالم، وسنصبح في هكذا عالم إذا كنا بلا خطة كالريشة التي تحملها اتجاهات الريح أنى سارت دون رغبتنا، وسنكون مجبرين على الإنجذاب والطرد حسب أحوال الانخفاضات والضغوط الجوية المتقلبة.

كل دول وأقاليم العالم تتصارع في سباق المصالح وبعدة أوجه منها الناعمة ومنها الخشنة، ولم تعد الحرب التقليدية هي الأداة الوحيدة لخوض هذا الصراع، فنعايش راهنا مثلا: حرب التجارة المفتوحة بين الصين والولايات المتحدة التي تبدأ من كثافة تصدير الصين لـ (باندات شعر البنا ) إلى معارك الجيل الخامس 5G في عالم الاتصالات الذي يتحكم في كل شيء، وحدِّث عما تشهده عوالم السياحة والثقافة الدولية من صراع، ناهيك عن الصراع المستمر على الموارد المائية واحتياطات الطاقة والممرات المائية والموانئ، وفي غالب هذه النماذج نجد أن علاقات الدول الرسمية قائمة والأعراف الدبلوماسية مرعية بينها (تركيا / إسرائيل) مثالا – فلربما كانت هذه النظم في العلاقات هي إحدى أدوات الصراع أيضاً عبر الإلزام أو التوافق داخل مؤسسات الأمم المتحدة على سبيل المثال، ورغم كل ذلك يبقى سعي كل دولة حثيثاً لنصرة استراتيجيتها الوطنية مهما كان التوغل في ثنايا التكتيكات أو إقامة وفض التحالفات.

بلا شك لنا موقف تاريخي – بكل ماهو معلوم – من إسرائيل، تولدت بموجبه مقاطعة نفسية أولاً قبل بقية (المقاطعات) من التعامل معها مثلنا مثل بقية دول (جبهة ضدها).. نشأ بيننا (كدولة) صراع محتد مباشر وغير مباشر، واختلفت ميادين صراعنا مع إسرائيل وامتدت عناصر هذا الصراع إلى داخل وخارج حدودنا، وتمثل ذلك في تسعير نيران الحروب الداخلية والتأثير على مصادر التمويل الدولية لحرماننا. تقدمت استراتيجيتها وتراجعت خططنا إلى حد التلاشي الآن.. لكن أكبر ثقل صارعتنا به إسرائيل هي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي ما فتئنا نخطب ودها ونقدم لها الفدى لرفعنا من قوائمها السوداء، وستظل جبهة إسرائيل وأمريكا واحدة لن نستطيع الفصل بينهما، لذلك كانت واهمة حكومة الفترة الانتقالية في سعيها لفصل مساري الشطب والتطبيع ومن ثم فرض الأمر الواقع نفسه وبحجر واحد أنجز إزالة اسم السودان من قائمة الارهاب كما نود، وقاد إلى التفاهمات مع إسرائيل كما يرغبون وبمحادثة هاتفية مثلثة الأضلاع ورباعية العناصر، وكأنما أرادت الولايات المتحدة وإسرائيل أن تقولا بها: “نحن جبهة واحدة، وأنتم وإن اختلفتم نستطيع توحيدكم للتعامل معنا كملف واحد”.
في اعتقادي أن واقع الهشاشة الذي نعايشه الآن وتعايشه البلاد منذ التغيير والذي كانت مظاهره الإضطراب والإصطراع الداخلي (وفش الغبائن) من جانب. ومن جانب آخر إستمرار الحصار الخارجي والوقوع في فخ الإبتزاز الإستراتيجي، هو الذي دفع الفريق أول عبدالفتاح البرهان لإنجاز تفاهمات عنتبي مع الإسرائيليين على طريقة الضغط على المكابح أولاً لإيقاف سرعة الانزلاق نحو هاوية التشظي والتقسيم ومخاطر أخرى محدقة كانت في الإنتظار.

ومثلما قالت لي الراحلة نجوى قدح الدم طيب الله ثراها، التي ربطتني بها علاقة أمدرمانية وسوح إنسانية في عمل خدمي وطوعي، والتي أشهد انها كانت تخدم وطنها بحب كبير ووعي عميق بعيد التصور: (إن للتضحيات أوجه متعددة إن كنت تدرك مبتغاك)، وحينها لم أكن أعلم أنها وراء حدث سيكتبه التاريخ في قائمة التحولات الكبرى، ولا حين حدثتني ليلة لقاء عنتبي دون أن أعرف وجهتها (عليكم يا إعلاميين ان تتفاعلوا مع حدث كبير سيقع، سيكون فيه إعادة إلى عافية الوطن إن أحسنا التعامل مع عناصره بوعي ورؤية ثاقبة متوافق عليها)، وهو ما دفع بي لاحقاً للإضطلاع مع آخرين بمهمة التصدي لنصرة الخطوة إعلامياً عبر القنوات والأسافير في نطاقها الاختراقي الأولي؛ على أمل إعادة (خطوات التنظيم) وفق خطة وطنية وعد البرهان بابتدارها.
سنصبح من الغافلين إن لم نشرع في تحليل الواقع استراتيجياً ونعيد توصيف إسرائيل ونطلع بوعي على مبتغياتها مقابل ما نملك أيضاً نحن من خطة شاملة وبما نحتفظ به من مقدرات و (كروت لعب) خدمة لمشروع وطني قابل للتعاطى (بأوجه متعددة) مع مقتضيات الصراع والوجود والمصالح، وهذا لعمري لن يتم إلا بإعادة تشكيل العقل الاستراتيجي القومي الذي بغيابه سنفقد بوصلة الإبحار في العلاقات الدولية ذات الحساسية العالية كالعلاقة مع إسرائيل. وإلى الملتقى.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.