وانطفأت شمعتي الضواية

اليوم وبعد هذا الرحيل المر، أفتش في دفاتر الحزن والأسى فلا أجد ما يهدهد هذا المصاب الجلل الأليم ولا ما يضمد هذا الجرح الغائر الموجع إلا قوله تعالى (لا حول ولا قوة إلا بالله وكل نفس ذائقة الموت)، كما أنقب في دفاتر الدموع والمدامع فلا أجد ما هو أبلغ من قول رسولنا الكريم:( إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الله وإنا على فراقك لمحزونون) كما أقلب صحائف المفجوعين من الشعراء فلا أعثر إلا على قول ابن الرومي يوم ان فجع في فلذة كبده وواسطة عقد أبنائه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
وأتبع ذلك بقول الشاعر الراحل المبدع الهادي آدم راثياً محجوب عبد الحفيظ:
أأرثيك ما يجدي الغداة رثائيا
وأبكي أسىً ماذا يفيد بكائيا
فإن المصيبة التي أصبنا بها، والفاجعة التي حلت بنا، والنازلة التي رزئنا بها، لجد عظيمة.. فالبارحة وفي مساء الخميس 2022/12/2 نعي لنا الناعي أستاذنا الجليل والفنان العظيم والشاعر المجيد والملحن البارع عبد الكريم الكابلي حادي ركب الفن الأصيل وحامل لواء الثقافة ونهر الإنسانية المنساب وكنز عظيم من الخلال الفاضلة والسمات السمحة ويكفيه أنه بدأ حياته بمهنة التعليم وهي من أشرف المهن بلا منازع.
فبالأمس ارتحل عن دنيانا الفانية هذا المبدع القامة والبلبل الصداح مخلفاً لنا الدموع والحزن واللوعة تلك التي لا يهدهدها إلا إرثه الكبير الذي خلفه لنا، ولا تضمدها إلا سيرته الطيبة التي تظل تسعى بيننا.. فالراحل المقيم الكابلي ترك لنا درراً ولآلئ من بينها شمعة، التي هي من نظمه ولحنه وأدائه لذا يتجلى فيها:
كم دمعة سالت فوق خدود الشمعة
ضوت للعيون الفي السهر مجتمعة
****
تسكب من حياتها النور
وترقص للأمل وتدور
وما عارفة الأمل مسحور
وما قايلة المسافة دهور
تكمل ألف شمعة وشمعة
تسكب روحها مليون دمعه
****
ترقص شمعتي الضواية
ترقص وفي رقيصها حكاية
من فصلين لأحلى رواية
فيها من النهاية بداية
****
مشوار وانكتب لخيالها
يرقص ويحكي وحالو وحالها
دمعو وسر حقيقتو الشالها
عارف في رقيصها زوالها
وفوق كل ذلك فهذه الأغنية ذات نفس فلسفي عميق. فلمن ترقص شمعة الكابلي بعد اليوم ولمن تحكي الحكاية؟
والراحل المقيم الكابلي أحب الناس جميعاً، وأحب لهم الخير وهذه من الصفات النادرة، لذا بادله الناس حباً بحب ووفاءً بوفاء ومودةً بأختها.. ويعتبر الإيثار من صفاته التي تحلى بها في وسط تسوده المنافسة غير الحميدة والغيرة، فنظم عددا من القصائد الرائعة، كما صاغ الألحان الشجية، وأهداها لبعض زملائه من الفنانين، بأريحية وطيب خاطر وهنا لا نستطيع أن نتجاوز أغنية جبل مرة تلك التحفة التي خلد بها تلك البقعة الساحرة الآسرة، والتي أهداها للرائع أبوعركي فسكب عليها سحراً وجمالاً، لتظل خالدة خلود ذلك المكان، وشاهدةً على عبقرية المكان والنظام والملحن والمؤدي.
والراحل المقيم تغنى بأشعار بعض الشعراء العرب، وتأتي أغنية عصي الدمع لأبي فراس الحمداني في مقدمة تلك.. وبذلك فإن الكابلي سفر كبير لا توفيه حقه المجلدات ولكن تبقى هذه مجرد خطرفات نعزي بها أنفسنا ونهدهد بها جمرة فقده الأليم ونضمد بها جرح فراقه الذي لا يندمل وكل كلمة نذكرها تصحي فينا وقدة الألم:
يا جرح دنيايَّ الذي لا يندمل.
وختاماً لا نملك إلا وأن نقول لا حول ولا قوة إلا بالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الله وإنا على فراقك لمحزونون يا الكابلي.
العباس علي يحيى
*الخرطوم

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.