المجتمع اﻷهلي ودوره في اﻻنتقال .. بين الحال والمآل

الخرطوم: ياسر الكُردي

من مُفارقات السياسة في السودان أن أحزابنا البالغ عددها حوالي (42) حزبًا فشلت في امتلاك زمام المبادرة وتقديم رؤى سياسية لانتشال بلادنا الغارقة في أزماتها..

وفي ذات التوقيت وجد المجتمع اﻷهلي المُكوَّن من المجموعات الصوفية والقيادات اﻷهلية، وجد (الملعب السياسي) خاليًا من أي حراك إلا التناحر والتعارك والتشظي الحزبي، فدخلوا – المتصوِّفة والقيادات اﻷهلية- في مضمار السياسة وقدَّموا مبادرات، صحيح أن الناس قد اختلفوا حولها، لكن الصحيح أيضًا أن (أهل الله) وعلى أسوأ الافتراضات نالوا بها أجر اﻻجتهاد..

 

رحلة طويلة

المحاضر في العلوم السياسية بعدد من الجامعات السودانية د. صديق عبد الرحمن عبد القادر، قدّم سرداً عميقًا حول المجتمع الأهلي وعلاقته بـ(الانتقال)، وكما هو معلومٌ بالضرورة فإنَّ مصطلح (اﻻنتقال) يكاد يكون الأكثر تِردادًا بعد تفجير ثورة ديسمبر 2018م والتي كُتب لها الانتصار يوم 11 إبريل 2019م.. (السوداني) كانت حضورًا لورشة أقامتها المبادرة السودانية للتنمية (سوديا)، بالتعاون مع المركز السوداني للديمقراطية والتنمية، ورصدت أهم اﻹفادات، حيث تتبّع المتحدّث الأساسي، د. صديق، رحلة المجتمع المدني، بالتركيز على التصوف منذ أن كان في مرحلة (التخلُّق) وحتى مبادراته التي طرحها للمساهمة في دفع عجلة الانتقال بالسودان. وأجاب على سؤال مهم هو: هل من مصلحة المجتمع المدني بالسودان أن يعيش في ظل حُكم ديمقراطي أم أن اﻷفيد له العودة إلى الشمولية..!!

مبادرات الجِّد وكدباس

بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على نجاح الثورة، وفشل المكونين المدني والعسكري في تقديم حل ناجع للمشكلة السودانية تبدأ به مرحلة انتقالية حقيقية وتعقبها انتخابات، ويبدو أن فشل أولئك كان مُبرّرًا كافيًا لدخول (المتصوفة) حيث بدأوا بمبادرة نداء أهل السودان والتي قادها الشيخ الطيب الجد (رجل أم ضوًا بان) والتي تهدف – بحسب أصحابها- إلى جمع شمل أهل السودان، (نساء، شباب، كهول، شيوخ ) غض النظر عن توجههم السياسي، وكذلك الهيئات والمزارعين والرعاة والمهنيين والغرض من ذلك التوحد والخروج بالبلاد من الوحل الذي دخلت فيه.

وتلتها مبادرة كدباس والتي وصفها الشيخ محمد حاج حمد الجعلي (رجل كدباس) بقوله إنها تدعو للحوار بين كل التّيارات والقِوى السياسية السودانية بهدف تجاوُز الوضع السياسي الراهن وفتح شرايين الحوار، لأنّ ذلك هو الطريق الوحيد لمُحاسبة المُفسدين الذين سرقوا أموال الشعب السوداني، واستطاعوا الهروب به إلى بلدان خارجية.

تفكيك مصطلح

د. صديق عبد الرحمن، بدأ حديثه بالقول إن مصطلح المجتمع الأهلي في السياسة السودانية يشير إلى المجموعات الصوفية والقيادات الأهلية بشكل محدد، مشيرًا إلى أنه قد برز مع تشكُّل الهوية السودانية بعد التحالف الشهير الذي جمع بين الفونج والعبدلاب والذي جسَّد التحالف بين القيادات القبلية وشيوخ التصوف كرموز للمجتمع الجديد.

مؤكدًا أن نفوذ شيوخ القبائل قد حاصر آخر مملكة مسيحية وهي مملكة علوة، حيث كانت تحُدها من الجنوب قبائل الفونج ومن الشمال العبدلاب ذوي الأصول العربية حتى العام 1504م حيث تحالف الفونج والعبدلاب على القضاء على علوة ونجحوا في معركة شهيرة قضوا فيها على علوة وخرّبوا عاصمتها وانتهت بذلك حقبة الممالك المسيحية وتحوَّل حِلف الفونج والعبدلاب إلى حِلف سياسي ذي إرث جديد قامت عليه سلطنة سنار والتي أحدثت به قطيعه مع النُظم السابقة…

البهراي أول من دخل

يعود دخول التصوف إلى السودان -بحسب د. عبد القادر- إلى بواكير عهد سلطنة سنار، حيث تشير الروايات إلى أن أول المشايخ الصوفية دخولًا إلى السودان هو الشيخ تاج الدين البهراي، وقد جاء حاملًا لواء الطريقة القادرية إلى ديار سلطنة سنار، ومكث في أراضي سنار قرابة سبعة أعوام، جذب من خلالها حوله العديد من المريدين والتلاميذ، وأبرز من مضوا معه في نهجه شيخ الطريقة القادرية الشيخ محمد الهميم وكذلك الشيخ عجيب المانجلوك.

ذكاء المُستعمر

ويشير د. صديق عبد الرحمن إلى أن الإدارة الاستعمارية استطاعت بذكاء استيعاب القيادات والمؤسسات الأهلية في إدارتها الحديثة بكل سلاسة، فقد استوعبت القيادات الدينية في منظومات التعليم والقضاء الشرعي واستوعبت الإدارة الأهلية كجزء من هيكلها الإداري الإقليمي، وقد ساهمت قيادات المجتمع الأهلية بشكل فاعل في بسط الاستقرار من خلال دعم الإدارة في تحصيل الرسوم والضرائب وكذلك توسيع رقعة المنظومة العدلية وبالتالي تخفيف الأعباء على مؤسسات الإدارة العدلية والأمنية.

واستمر الوضع على ما هو عليه في فترة الديمقراطية الأولى في السودان بالنسبة للقيادات الاهلية باعتبارها شريكًا أصيلًا في تكوين الدولة السودانية المعاصرة وأحد الأعمدة التي ترتكز عليها الدولة وريثة الإدارة الاستعمارية وحتى حقبة عبود لم يحصل شيء يُذكر في العلاقة بين الدولة والقيادات التقليدية.

بين عداء مايو ومُراوغة اﻹنقاذ

ويؤكد أستاذ العلوم السياسية د. صديق أن حقبة نميري تعتبر علامة فارقة في العلاقة بين الدولة والقيادات الأهلية حيث أعلن نظام مايو العداء السافر للمجتمع الأهلي برمته، وفي يوم 28 يونيو من العام 1969 أصدر مجلس الوزراء قرارًا بإلغاء الإدارة الأهلية في مديرية الخرطوم والمديرية الشمالية والمناطق المروية في مديرية النيل الأزرق والتدرج في إلغائها في المناطق الأخرى من البلاد، وتبنى النظام خطابًا هجوميًا ذا طابع يساري في مقابل القيادات الأهلية والتي اعتبرها النظام داعمة للقوى الرجعية التي مثلت تشكيلاتها القيادات التقليدية ومجتمع الأرياف. قام نظام مايو بممارسة الضغط على كل الكيانات وعرَّضها في عهده إلى المصادرات والتضييق والملاحقة وحتى العمليات الأمنية الواسعة.

ويمضي صديق بقوله إن نظام الإنقاذ الوطني قد سعى منذ بداياته لتمهيد الطريق لاستعادة فعالية القيادات الأهلية التي ما زالت تعاني من بعض الأضرار التي أصابها في حقبة مايو، حتى استطاع إعادة الإدارة الأهلية ودعم كثير من المجموعات الصوفية التي ليس لها عداء أو خلاف مع النظام القائم.

وتفاعلت الإنقاذ مع قيادات المجتمع الأهلي بشكل كبير جدًا حيث كثّفت مشاركة القيادات الأهلية في أنشطتها الإدارية والأمنية وبالأخص في الأقاليم، وتعاملت كذلك بكل حزم وقسوة مع المعارضين منهم في الحقبة الأولى، وعند دخول السودان حقبة النفط ساهمت الفوائض النقدية التي وفرتها

صناعة النفط في تغيير سياسة الإنقاذ حيث تبنت سياسة شراء الولاءات وكذلك استبدال الزعامات الأهلية غير المرغوب فيها بأخرى موالية لها وقد مرت العلاقة بين القيادات التقليدية ونظام الإنقاذ بأحداث مختلفة من تقارب وتباعد، رسمها تصاعد الأحداث والحراك الاجتماعي في السودان من نزاعات وحروب أهلية وتوترات في المجتمعات الريفية، صاحبها كثير من التعديلات للإدارات الأهلية والمؤسسات الصوفية والكيانات الدعوية.

ما بعد الثورة

ومن خلال متابعته للأحداث أشار د. صديق عبد الرحمن إلى أن العلاقة بين الحكومة الانتقالية، وقيادات المجتمع لم تكن على ما يرام من اللحظة الأولى، حيث تجاهلت الحكومة الانتقالية وجود المؤسسات الأهلية وقياداتها بشكل كامل في كل مشاوراتها وقراراتها ما صعّد التوتر بينهما، وظهرت حالة التباين في عدة أشكال منها الخلاف الكبير الذي نتج عن مسارات السلام وبالأخص مع بعض مكونات الشرق حيث أسفر الخلاف عن إغلاق طريق بورتسودان البري من قبل مجلس نظارات الشرق والعموديات المستقلة، كذلك الصراع

الذي تحول إلى أزمة كبيرة في قضية المناهج الشهيرة

دفعت حالة عدم الثقة بين كثير من قيادات المجتمع الأهلي والحكومة الانتقالية إلى مشاركة بعض تلك القيادات في اعتصام القصر الجمهوري احتجاجًا على مسلك الحكومة الانتقالية، وشكّلت حالة السخط على الحكومة الانتقالية من بعض القيادات والحركات المسلحة مباركة انقلاب الجيش على العملية الانتقالية في 25 أكتوبر.

اللعب لصالح الورق

د. صديق، خلُص إلى أن مؤسسات المجتمع الأهلي التقليدية وقياداته حرصت على إتمام عملية الانتقال الديمقراطي في السودان والتخلص من إرث الاستبداد الطويل، ليس ذلك فحسب بل إن أغلب القيادات الأهلية تعتقد أنها لديها مصلحة كبرى في التحوُّل إلى نظام ديمقراطي حيث يمكن لهم بأوزانهم الاجتماعية التأثير والمشاركة في العملية السياسية من خلال الإسهام في دفع مواطنيهم إلى المشاركة بكثافة في الانتخابات وبالتالي الوجود في السلطة، بعكس ما إذا انتكست البلاد إلى نظام شمولي فحينها سيقعون تحت رحمة قوى قمعية تزيد ضعفهم وتكتم أصواتهم.

ومن أجل بلوغ الوضع الأمثل لا بد من إشراك كل أطراف المجتمع السوداني في عملية التحول

الديمقراطي بشكل فاعل من حيث المبدأ، علينا كذلك توضيح أدوار الفاعلين في المجال العام

ومعرفة المكان الأمثل الذي يتناسب مع إمكاناتهم في عملية الانتقال من أجل ضمان انتقال ذي قاعدةٍ عريضة يضمن استدامة الديمقراطية.

لملمة جراح

في خاتمة المطاف، ومن خلال مُداخلاتهم اتفق الحضور مع د. صديق عبد القادر، على أن المجتمع الأهلي يمكن أن يساهم بفعالية خلال فترة الانتقال من خلال قيادة عمليات توطيد السلم الاجتماعي من خلال التواصل مع مكونات المجتمع السوداني والوساطة في حلحلة الأزمات المتفاقمة وتكثّيف جهود المصالحة من أجل لملمة الجراح التي نتجت عن سنين النزاعات المتطاولة وما نتج عنها من نزوح وضحايا وأضرار كبيرة يصعُب على جميع الأطراف الأخرى حلّها.

كذلك يمكن للقيادات الأهلية دعم الإدارة الانتقالية من خلال تحسين عملية التواصل والتفاهم مع المجتمعات المحلية المختلفة ما يُولِّد الثقة بين الحكومة والمجتمع وبالتالي التعاون من أجل نجاح الفترة الانتقالية وتقليل عمليات الاحتجاج والاعتراض على إجراءات الحكومة الانتقالية وكذلك دعم عمليات حفظ الأمن في أطراف السودان.

وفي آخر إفاداته أكد، د. صديق عبد القادر أن المجتمع الأهلي بكل مكوناته يمكن أن يمارس أداور فعّالة جداً لدعم التحول

الديمقراطي في السودان إذا سُمِح له بالانخراط في المجال العام بكل حرية، فالمجتمع الأهلي صاحب مصلحة أصيلة في تحول البلاد إلى نظام ديمقراطي حقيقي يسع الجميع.

 

 

 

شارك الخبر

Comments are closed.