روايات مأساوية لسودانيين فقدوا ذويهم في رحلة غير شرعية لمصر

محمود النجار: بي بي سي 

في مدينة أسوان أقصى جنوب مصر وفي شقة سكنية صغيرة جدا داخل أحد الأحياء الشعبية، قابلتنا الشابة السودانية محاسن التي وصلت إلى مصر لتوها في رحلة تهريب شاقة فقدت فيها والدتها السيدة منى، هربا من الصراع في السودان.

لم تكد محاسن تتمالك كلماتها في حديثها معنا وعلى كتفها رضيعتها الصغيرة وبجوارها إخوتها الصغار الذين عانوا معها ويلات الرحلة، بعيون زائغة يملؤها الخوف بدأت في الحديث عن الرحلة وكيف ماتت أمها “منى” في الطريق بسبب موجة الحر الشديدة.

 

ولقي 80 سودانيا على الأقل، بينهم أطفال ونساء، حتفهم خلال شهر يونيو، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وذلك أثناء محاولتهم الفرار عبر الحدود السودانية إلى مصر بشكل غير شرعي.

 

وقال تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن ضربات الشمس والجفاف تسببا في مقتل عشرات السودانيين في الفترة بين السادس والتاسع من يونيو الماضي أثناء عبورهم الصحراء الفاصلة بين مصر والسودان جنوب البلاد للهروب من الحرب.

الرحلة والحرارة، وفقدان الأحبة

بدأت محاسن في وصف الرحلة، قائلة إنهم تكدسوا في سيارة نقل صغيرة، كان يستقلها نحو 20 شخصا، وشقت طريقها وسط الجبال والأودية في درجات حرارة تجاوزت في بعض الأيام 49 درجة مئوية.

استغرقت الرحلة التي بدأت من مدينة بحري شمالي الخرطوم سبعة أيام دون راحة، أربعة منها داخل السودان حتى الحدود السودانية المصرية، وثلاثة أيام أخرى حتى وصلوا إلى مدينة أسوان.

وأثر ارتفاع درجات الحرارة على الأم منى التي كانت تعاني من الحزام الناري كما تقول محاسن، وتضيف: “أصيبت أمي بحمى شديدة ونوبات متتالية، وبعد أن وصلنا أسوان فقدت الوعي”.

رفض المستشفى في أسوان استقبال الأم، “قالوا لنا أنتم جئتم بالتهريب ولن نساعدكم” تقول محاسن.

 

وبعد فترة جاءت طبيبة لتتفحص السيدة الخمسينية، وأخبرتهم بوفاتها، ثم جاءت الشرطة وأخذت جثة أم محاسن واحتجزوا شقيقها محسن ذا السبعة عشر عاما.

 

تحدثنا إلى مدير مستشفى الصداقة بأسوان أشرف حسين حماد والذي قال إن المستشفى لا يستطيع تقديم خدمات إلا لمن يحمل هوية ومتواجد في البلاد بشكل قانوني، وقال إن حالات الطوارئ فقط يتم علاجها، ولم يفسر حماد لماذا لم يتم علاج حالة الأم منى.

 

فراق بعد الفراق

“لم أرَ والدتي منذ ثلاث سنوات وكنت أتمنى أن أراها، فسمعت خبر موتها”، هكذا يقول مصعب الابن الأكبر لمنى التي فاضت روحها بعد أن اجتمعا عليها الحرب والحر، يعيش مصعب في القاهرة منذ ثلاث سنوات، واقترح الشاب العشريني على أسرته أن يأتوا إلى مصر بعد أن اندلعت الحرب في السودان، في ظل معاناة والدته المرضية، والنقص الشديد في الاحتياجات الأساسية والأدوية في السودان.

 

بدأ مصعب في الحديث والدمع ينهمر من عينيه، قائلا إن السبب الذي دفع أهله للمجيء بطريقة غير شرعية هو عدم وجود مؤسسات تعمل في السودان، وكذلك التشديدات والقيود المفروضة على إصدار تأشيرات الدخول والإقامة.

 

وعلَقت مصر التزامها بموجب معاهدة بإعفاء النساء والأطفال والرجال السودانيين الذين تزيد أعمارهم عن 49 عاما من الحصول على تأشيرة، وذلك بعد أقل من شهرين على بدء الحرب، ما أدى إلى تباطؤ دخول السودانيين إلى مصر.

 

وقالت مصر إن الهدف من هذه الإجراءات هو وضع ما وصفته بالإطار التنظيمي لعملية دخول السودانيين لمصر.

وطوال أيام الرحلة، انقطعت أخبار عائلة مصعب، حتى دق هاتفه في اليوم السابع وفوجئ بأخيه يخبره بوفاة أمه، ولا حيلة لهم لإدخالها المستشفى.

 

في اليوم التالي وصل مصعب لأسوان وتوجه إلى قسم الشرطة ليجد شقيقه مقبوضا عليه ومهدد بالترحيل، ويقول إنه حاول إخراج أخيه من قبضة الشرطة لكن دون جدوى.

 

وقبل نحو ثلاثة أسابيع رحّلت السلطات المصرية نحو 700 سوداني دخلوا إلى أراضيها بطريقة غير شرعية، حسب وكالة الأنباء السودانية.

 

وتنشط عصابات تهريب البشر على طول الحدود السودانية المصرية والتي تقدر بأكثر من 1,200 كيلومتر، في ظل تشديد إجراءات الدخول الرسمية.

 

وتزايدت وتيرة الوافدين من السودانيين بشكل غير شرعي خلال الفترة الماضية.

 

وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، إن إجمالي اللاجئين المسجلين لديها بلغ أكثر من 676 ألف لاجئ، يحتل السودانيون نصيب الأسد منها بنسبة 58.56% حيث بلغ عددهم حوالي 400 ألف لاجئ، وذلك حتى آخر تحديث في الخامس والعشرين من يونيو الماضي.

 

وتقدر السلطات المصرية عدد السودانيين المقيمين على أراضيها بحوالي 5 ملايين سوداني.

 

المأساة تتكرر

أمينة وهو اسم مستعار لسيدة سودانية مكلومة فقدت أربعة أشخاص من عائلتها في رحلة تهريب شاقة وسط الصحراء خلال موجة الحرارة الشديدة ذاتها.

 

أمينة التي كانت تصطحب أطفالها الصغار، طلبت إخفاء هويتها لأسباب تتعلق بسلامتها.

بدأت أمينة رحلتها مع أفراد من عائلتها من مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي السودان، واستغرقت رحلتها ثلاثة أيام حتى وصلت إلى الحدود المصرية، فأنزلتهم السيارة التي كانوا يستقلونها عند الحدود المصرية ثم جاءت سيارة أخرى وانطلقوا من جديد.

 

روت لنا أمينة تفاصيل الرحلة، واصفة معاملة السائق بشديدة السوء، وأردفت “عندما أوشكنا على الوصول للحدود المصرية أبلغنا السائق أن هناك ارتكازًا للجيش فقام بتغيير المسار، في هذه الأثناء كان الطعام والشراب لدينا قد نفد”.

وأخبرتنا أمينة بكلمات غلبها الأسى: “سقطت سيدة كانت معنا ورفض السائق التوقف”.

أنزلهم السائق على أطراف مدينة أسوان حيث قال لهم هذه المحطة الأخيرة، بعدما توفي ثلاثة أشخاص بينهم بسبب الحرارة والعطش الشديد، والسرعة الجنونية وسط طرق وعرة غير ممهدة.

 

تكاتف برغم الفرار

“في أحد أيام الموجة الحارة مطلع الشهر الماضي ساعدنا في دفن 100 شخص من القادمين عبر التهريب” كما تقول سعاد السيد، الأمين العام لمبادرة الأشقاء الطوعية لدعم السودانيين في أسوان، وهي مبادرة أنشأها سودانيون بالتعاون مع جمعيات مصرية بعد اندلاع الحرب في السودان، وتُعنى بالسودانيين فاقدي الأهلية الموجودين في أسوان، والمرضى في المستشفيات، والموقوفين، كما تقوم على تسهيل إجراءات دفن السودانيين الذين قضوا في طريقهم غير الشرعي لمصر، بالتعاون مع مفوضية اللاجئين والقنصلية السودانية.

 

وتقول سعاد السيد الأمين العام للمبادرة، إنهم رصدوا بشكل يومي وفاة نحو خمسة أشخاص أو أكثر من السودانيين الفارين بشكل غير شرعي، منذ بداية يونيو، جراء الحرارة ووعورة الطريق، بخلاف من يُدفن في الطريق، بحسب الفارين.

 

عرضة للنهب والاستغلال

انتقلنا لعضوة أخرى في المبادرة وهي فاطمة عبدالله، والتي قالت لنا إن السودانيين القادمين في رحلات التهريب يتعرضون للاستغلال في منطقة الكسارة على طرف مدينة أسوان، حيث يخوفهم سائقو التكاتك بقدوم الشرطة فيضطرون للركوب معهم ويدفعون ما يصل إلى خمسة آلاف جنيه (104 دولارات) في مسافة لا تتجاوز دقائق، على حد تعبيرها.

ورصدت المبادرة حالات استغلال للفارين السودانيين على يد من يوصفون بالسماسرة والذين يطلبون حتى ألف جنيه مصري (22 دولار) مقابل توفير إمكانية الاستحمام للفرد الواحد، بحسب عبدالله.

 

رحلتنا لتتبع مسار الوافدين

عقب اللقاء وفي ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، توقفنا بالقرب من منطقة الكسارة، وهي المنطقة التي يشتبه في كونها محطة دخول السودانيين المهربين إلى أسوان، ورصدنا بكاميراتنا قدوم سيارة تحمل العديد من الأشخاص بينهم نساء وأطفال تبدو عليهم جميعاً آثار عناء الطريق والرمال المتناثرة على وجوههم ورؤوسهم وشاهدناهم ينقلون الأمتعة بعد توقف الحافلة، وأكدت لنا مصادر سودانية كانت بصحبتنا أن هؤلاء سودانيون جاؤوا تهريباً، وأن هذه المنطقة تشهد هذه الحركة بعد منتصف الليل.

وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المنطقة التي يمر عبرها هؤلاء الفارون بشكل غير شرعي على أطراف مدينة أسوان، رغم أنها أصبحت منطقة خطرة بعد انتشار عدد من المنتفعين ومن يسمون بالسماسرة وأصحاب التكاتك لنقل الفارين بشكل غير شرعي بحسب شهود عيان.

 

ورصدنا أثناء وجودنا عددا من الحافلات الصغيرة والتكاتك تأتي من داخل الجبال والصحراء، وتتوقف ولإنزال السودانيين بجانب محطة للمياه على أطراف الصحراء، يعتبرها المهربون المحطة قبل النهائية للوصول إلى مدينة أسوان، بحسب شهود عيان.

 

واصطحبنا في هذه الرحلة أعضاء من مبادرة الأشقاء الطوعية لدعم السودانيين في أسوان.

 

معاناة بعد الوصول

ولا تتوقف معاناة الوافدين عند هذه المحطة، فمن ينجو من رحلة الموت والاستغلال، يواجه تعقيدات في تسوية أوضاعه في مصر.

 

واتهمت منظمة العفو الدولية “آمنستي” السلطات باعتقال آلاف اللاجئين الفارين من الحرب في السودان، بشكل جماعي، وترحيلهم قسرا، فيما قالت السلطات إنها تلتزم بالإطار القانوني والتشريعي في تعاملها مع ملف اللاجئين، وأصحاب الجنسيات الأجنبية ولا تفرق بين جنسية أو أخرى.

وطالبت الحكومة المصرية الأجانب المقيمين على أراضيها بسرعة “تقنين أوضاعهم وتجديد إقاماتهم والحصول على بطاقة الإقامة الذكية” لضمان الاستفادة من كافة الخدمات الحكومية المقدمة إليهم.

 

وذكرت الحكومة أنه بعد انتهاء المهلة النهائية بحلول 30 سبتمبر سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية حيال الأجانب الذين لم يستخرجوا بطاقات الإقامة أو بطاقات الإعفاء، والتعامل معهم باعتبارهم مخالفين لضوابط الإقامة في البلاد.

شارك الخبر

Comments are closed.