في الإصلاح الأمني والعسكري مرة أخرى

 

محمد فاروق
من المُهم أن نفصل في وعينا بين العقيدة القتالية والعقيدة العسكرية للدولة، وما نسميه بالعقيدة القتالية أو العسكرية داخل المؤسسات العسكرية والأمنية كسلوك للأفراد وتقاليد داخل المنظومة وقواعد ليس بالضرورة مكتوبة، ولكنها موروثة ويتم الحفاظ عليها وفق ذاكرة هذه المؤسسة ومخزونها من تجارب ليس بالضرورة هي الأفضل في بناء اي جهاز بيروقراطي، سينشغل أفراده بالتأكيد على أهمية دورهم من خلال تعظيم دور جهازهم البيروقراطي هذا.

العقيدة القتالية للدولة هي تطوُّرٌ لأنماط قُدرة الدولة في تعزيز استقلالها في الدفاع عن نفسها وحماية مصالحها من المُهدِّدات والمخاطر الأمنية، وتعدى هذا لقدرتها على إنفاذ قانونها الوطني واحترام القانون الدولي، وفق عالمنا المُعاصر، ومنذ أن أصبحت الجيوش تُبنى بشكل احترافي مهني، يتم إعداد أفرادها وتدريبهم لتحقيق كفاءة هياكل الجيش وجدارة أفراده لتحقيق هذه القدرات، في الوقت الذي أصبحت فيه العسكرية هي العقيدة القتالية للدول، وليس التّطوُّع أو المُبادرة التي يُمكن أن يقوم بها الأفراد او المجموعات القبلية والدينية داخل الدولة، فالإطار الذي يجب أن يحكم احتكار الدولة للعُنف كمبدأ في الدولة لتعزيز أمنها القومي، هو إطارٌ قوميٌّ بالأساس وأنّ تطوّر من خلال تعزيز قُدرة المجتمعات المحلية على التعايش، وحل النزاعات الداخلية سياسياً وسلمياً من خلال عمومية الدولة وتعزيز سلطات أفرادها وصيانة حريتهم وكرامتهم وفق عدالة فرصهم في التنمية والمساواة في الحقوق.

ما يُمكن أن يسمى بعقيدة قتالية أو عسكرية داخل أي منظومة أمنية بمعنى سلسلة الأوامر والتصرُّفات غير المكتوبة، والتي تُشكِّل سلوكاً مُمنهجاً لهذه الوحدات وأفرادها، هو مناط أي عملية إصلاح مؤسسي لأي جهاز بيروقراطي وليس الجيش أو الشرطة والأمن لوحدهم، ويجب الوعي لكون هذا السُّلوك المُمنهج والذي يحكم أداء هذه الأجهزة، ليس من صميم أهدافها وواجباتها، وليس بالضرورة من الخبرات الموضوعية أو المهارات الذاتية التي تعين على تحقيق هذه الأهداف، وخدمة الواجب الوظيفي، بل بالعكس في كل المهن ظلّ كثيرٌ من هذه السلوكيات أساساً لتعزيز امتيازات الأفراد ومنسوبي أجهزة الدولة خارج أهداف وظائف الخدمة العامة، وبالتالي انحراف جهاز الدولة عن واجباته ومهامه وتهديده للمصلحة العامة، وتعزيز مصالحه الخاصة والتمرغ في الميري كما يقال في المثل الشعبي.

يمكن أن يتجاوز هذا الوصف للاختلال في العقائد المهنية داخل الدولة السودانية، إلى وصف الاختلال داخل الطبقة السياسية، والتي اتّخذت من العمل السياسي طريقاً مختصراً shortcut، لهندسة امتيازاتها بعيداً عن عنت مؤسسات الجهاز البيروقراطي، “ومُطاولاته”، والتي يحكم وجودها سلسلة قوانين مكتوبة وهياكل موجودة لا يمكن تجاوزها وفق عجلة السياسي الناشط، الذي ينتهي دائماً لإقامة تحالفات مع أجهزة الدولة لتمكين سلطانه، تنتهي بتعزيز انحراف هذه الأجهزة وليس إصلاحها بأية حال، وتهيئة الدائرة الشريرة للدوران مرة أخرى، وفق متلازمي الاختلال والهيمنة، كملمح أكيد للانحلال السياسي. ولكن من الأهم الآن ترك نظامنا السياسي جانباً، والانتباه لجهاز الدولة؛ فبقدر ما يُهدِّد قصور السياسيين وانحرافهم النظام السياسي، إلا أنّ انحراف جهاز الدولة يهدد وجود الدولة الآن، وبالقدر الذي يُمكن أن تحكم حركة الجماهير وتنامي وعيها طبقتنا السياسية وتعزلها حتى، إلا أن انحراف جهاز الدولة سيهدد هذه القدرة عند الجماهير على ابتكار نظامها السياسي، الديمقراطي إذا شئنا، وبشكل أكبر من انساق الاجتماع التقليدي في مجتمعاتنا، وبينما يُخضع أي نظام سياسي على قدرة الجماهير ودرجة نمو وعيها وفق شروط غالبة فيها الذاتية، قد يكون التفريط فيها طريقا للتعلم، يخضع جهاز الدولة لشروط موضوعية وخبرات ومهارات علمية لم تعد تعترف حتى بالحدود الوطنية لانتقال المعرفة والعلوم وتطبيقاتها يكون التفريط فيها مهلكاً.

وفق هذا، لا يبدو الحديث الآن عن الإصلاح الأمني والعسكري عملية معزولة عن مجمل إصلاح جهاز الدولة، ووفق حقيقة تاريخية لا يُمكننا إغفالها كون هذا الجهاز أتى سابقاً لتطور اجتماعنا السياسي والدستوري، وبالتالي وضع القوات النظامية كقوة لإنفاذ القانون فوق السلطة القانونية المستقلة نفسها، القضاء، وفوق المشرع أي الشعب نفسه، ممّا أعاد تعريفها عمليًا كقوى فوق دستورية. وبالنظر لهذا الواقع لا بد من الدخول في عملية شاملة تضع في أولوياتها استعادة جهاز الدولة ومن ضمنه الأجهزة الأمنية والعسكرية وإعادة تعريفه بشكل سليم، بعيداً عن إرسال تطمينات للأفراد وتعزيز نفوذ القيادات الحالية، عملية تهدف لتعزيز دور هذه المؤسسات كجزءٍ من بنية السلطة المدنية وليس منافساً لها وفق سيادة القانون العادل، ودولة المؤسسات، وتعزيز قُدرة الجماهير ومسؤوليتها على المُحاسبة. وهو ما يعني ردم هذه الهوة الناتجة عن كون جهاز الدولة أتى سابقاً للدولة نفسها، بغير كيفية الانحلال السياسي الحالية التي تتعاطى مع الأشواط المفقودة في صِراعنا السِّياسي الاجتماعي الوطني اتجاه الدولة كامتياز، وليس كواجبات لم يعد بالإمكان تأجيلها.

شارك الخبر

Comments are closed.