خالد عمر تفاصيل رحلة بين “فداسي” والقصر الرئاسي

الخرطوم: الزين عثمان

المكان المملكة العربية السعودية، الزمان الشهر الأول من العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي، حيث حمل الوالد عمر يوسف شهادة كونه مهندساً، وهبط في الخليج بحثاً عن واقع أفضل واقع صعب عليه أن يحصل عليه في بلاده التي تتناوشها رغبات العسكر وعجز المدنيين، وتحيط بها ما اصطلح على تسميته الدائرة الشريرة عسكر ومدنيين.

المكان جامعة الخرطوم أواخر تسعينيات القرن المنصرم حيث الإنقاذ بمفاصلتها وتنامي رغبة من صنعوها في إعادة هندسة المجتمع السوداني، والسؤال الذي ظل دون إجابة من أين أتى هؤلاء؟ ومعه سؤال آخر كيف يذهب هؤلاء؟ من داخل كلية الهندسة الابن يحمل حلمه، وهو حلم جيل كامل في الخلاص عند بوابة السنتر تواجهه العبارة “الجامعة ما استيكة وقلم الجامعة دم” والتوقيع تحتها “رابطة الطلاب الناصريين العرب” يستعير الشاب النحيف عبارة أخرى من إرث المهدية، بعد أن يعيد تحويرها “دي العروبة الأباها المهدي”، مستبدلاً لها بنص “كل الوطن للناس لا خاصة لا عامة”، تزامن ذلك مع صعود وارتفاع صوت دعاة السودان الجديد ومشروعه للتغيير.

المكان الخرطوم ثوار أعالي النفق يضربون على الطبول دون توقف أمام القيادة العامة، الزمان أبريل 2019، واللحظة ثورة شعب كامل، نفس الزول يغادر شارع (المين) داخل حرم الجامعة، لكامل شارع البلد الذي يرغب في مدنية تحقق طموحاته في الحرية السلام والعدالة، يردد نفس الكلمات وذات الأحلام، بينما يتساءل أحد الواقفين في ميدان الاعتصام “الزول منو؟” فيرد عليه آخر ده “خالد سلك” قبل أن يصلحه آخر بقوله إنه خالد عمر يوسف، الاسم الذي صعد عقب الثورة، أو الشخص الذي يمكنك أن تعرفه بالمناضل والزائر الدائم للمعتقلات، داعياً للانتخابات كآلية مقاومة، الوزير الذي تم الانقلاب عليه، آخر المعتقلين من السياسيين الرافض للانقلاب، وهو نفسه المتحدث الرسمي باسم العملية السياسية.

مدخل أول

يناير من العام 1979 هناك في المملكة العربية السعودية أطلق صرخة ميلاده الأولى، كان ذلك بعد عامين من قيام حزب المؤتمر السوداني، وقبل عشر سنوات من انقلاب حزب “المؤتمر الوطني”، وبين السعي لبناء مؤتمر وطني وهدم آخر، كانت حكاية الشاب الذي تنحدر أصوله من منطقة فداسي الحليماب، بالقرب من مدينة ود مدني، الشاب الذي صعد بالثورة، وصعدت به الثورة، هو “نفس الزول” المتهم بالهبوط بنعومة لتحقيق تطلعات تخصه، يقول من يرفضون وجوده في المشهد، ويرفضون في الوقت نفسه صعوده لصناعة مستقبل البلد، لكنه وفي كل الأحوال ظل الشاب اسماً في الحياة السياسية السودانية، ورقماً لا يمكن تجاوزه في سودان ما بعد ديسمبر، وبالطبع لا يمكن تجاوزه في محاولة “هندسة” أوضاع ما بعد الانقلاب. في القادم نحاول أن نقلب صفحات كتاب اسمه خالد عمر يوسف.

المهندس “المقاوم”

ولد خالد عمر في السعودية التي كان يعمل والده فيها مهندساً، وكانت والدته زهور عبد الله الوالي، التي تخرجت في كلية العلوم جامعة الخرطوم، وبدأ دراسته في السعودية قبل أن يعود ليكملها في السودان حيث درس في ود مدني، قبل أن يتم قبوله في كلية الهندسة جامعة الخرطوم، التي انخرط في ردهاتها داخل منظومة مؤتمر الطلاب المستقلين، مدافعاً عن مشروع الاستقلالية، ومقاتلاً بكل ما يملك من أجل تحقيق غاية “كل الوطن للناس لا خاصة لا عامة”، بدأ خالد الخروج عن جلباب العائلة منذ وقت باكر، حين اختار أن يمضي في اتجاه الانضواء تحت لواء حزب المؤتمر السوداني، تاركاً خيارات العائلة التي ارتبطت وبشكل كبير بالحزب الاتحادي الديمقراطي، وفي الجامعة برزت المقدرات القيادية لعمر وسط أقرانه، بينما بدا الشاب وكأنه يعوض ما فاته من اتحادية بتوطيد علاقاته مع القيادي الاتحادي، محمد الفكي سليمان، من خلال جامعة الخرطوم التي شهدت عهود مقاومتهم للإنقاذ، وهم طلاب، وانتزاع الاتحاد في العام 2003، وهي العلاقة التي لم تنته، حيث امتدت بأن حملت الثورة خالد ومحمد الفكي نحو كراسي السلطة، قبل أن يجمعهما الانقلاب مرة أخرى خلف قضبان السجن، بعد قرارات 25 أكتوبر، وهي العلاقة التي تحدثها عنها خالد، وهو يصف الفكي بقوله: “رفيق الدرب الطويل.. درب اختبار المبادئ التي لم يهب خوضها أبداً “.

المعتقلات

يقطع المسافة الواقعة بين كلية “الهندسة” بالجامعة وشارع المين الأشهر، مطلع الألفية الثالثة، ويحلم بإعادة هندسة الواقع السياسي داخل الجميلة، يومها كان مجرد قول “لا” مستحيلاً لكنه وآخرين من جيل عاش ويلات الإنقاذ ومجابهتها كانوا وعلى سبيل الفخر يرددونها “المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم”، وهو الالتزام الذي دفع خالد فاتورته من حريته ومن اعتقالاته المتكررة.

برز اسم المهندس خالد عمر يوسف لأول مرة عندما اعتقلته سلطات الأمن السودانية في عهد الرئيس المعزول عمر البشير في 5 أغسطس 2015، ليفرج عنه بعد عدة أشهر، ثم عاودت سلطات الأمن اعتقاله في ديسمبر 2016، وفي الشهر نفسه من عام 2017، وفي صبيحة الانقلاب الذي قاده قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان في ٢٥ أكتوبر 2021، تم اقتياد المهندس خالد عمر يوسف، وعدد من أعضاء الحكومة، بمن فيهم رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، إلى السجن، ليقضي فيه شهراً، قبل أن يطلق سراحه في 27 نوفمبر، ثم عاودت أجهزة الأمن اعتقاله في 9 فبراير 2022 ليقضي شهرين في الاعتقال، وسبق لخالد أن سرد تفاصيل اعتقاله الأخير عقب تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر، مشيراً لسوء المعاملة من قبل من قاموا باعتقاله.

بغض النظر عن الاعتقال وغيره، فإن خالد يتم تصنيفه بأنه أحد الأسماء الصاعدة في مجال السياسة السودانية، وهو الجيل الذي صنع نفسه، وصنعته مواقفه، فجيل أواخر التسعينيات وبداية الألفية في الجامعات السودانية، هو الجيل الذي حمل لواء المقاومة، دون أن يسقطه، وظل متمسكاً به حتى الرمق الأخير. وخالد هو فرس الرهان في الجيل الجديد، يقول من يناصرونه، بل البعض يصل لتوصيفه بأنه “لوكامودريتش” السياسة السودانية ــ في إشارة للاعب ريال مدريد الكرواتي.

ليس جميلاً كما يتصوره البعض

رغم أن الكثيرين يرون في صورة خالد ورفاقه مدخلاً جديداً لاعادة هندسة الواقع السياسي السوداني من خلال التزامهم بقضايا الناس، وفي هذا السياق يصف القيادي بحزب المؤتمر السوداني، الوالي السابق لولاية شمال دارفور، محمد حسن عربي، خالداً بقوله إنه مستعد في سبيل الوطنأان يبيع كل شيء، إلا الاستقامة، لكن في المقابل فإن آخرين يرون فيه النقيض تماماً فهم يصفونه بربيب “السفارات”، وفتى المحاور المدلل ــ في إشارة بشكل كبير لتدويل القضايا السودانية، ويرون في خالد أنه أحد المسؤولين عن هذا التدويل، وأنه حمل القضية السودانية للخارج دون إحساس بالذنب، يتحمل خالد مع آخرين وزر حمل القضية السودانية للخارج بعد الثورة، وبالطبع اتهامه بموالاة دول ومحاور لتحقيق أهدافها، وبالتالي ضمان مقعده كمؤثر في المشهد السوداني المضطرب، وتدعم هذه الاتهامات اعترافات خالد بزيارته الإمارات مع قيادات أخرى، وتصريحاته الداعمة للدور الإقليمي والدولي في السودان، لكن الكثيرين هنا شبه متفقين على أن خالد باع كل شيء للحصول على كرسي الوزارة في الفترة الانتقالية، وأنه ما يزال يمضي في الطريق ذاته؛ بغية العودة له مرة أخرى، وإن كان البعض يقول إن هذه الاتهامات لا اساس لها من الصحة، وأن من يطلقونها يدفعهم موقف العداء له، وفي أفضل أحوالهم فهم ينطلقون من الغيرة.

السيد الوزير

بعد إعادة تشكيل الحكومة الانتقالية عقب ضغوط من الحاضنة السياسية، وتم بموجبها تحويلها من حكومة كفاءات لحكومة حزبية، تم اختيار خالد عمر يوسف لمنصب وزير وزارة مجلس الوزراء، وهي ما اعتبرها بعض المقربين من الشاب بأنها خطوة في سبيل تحقيق أحلامه، حيث سبق لخالد أن ترك عمله الخاص، متجهاً نحو العمل السياسي في مؤسسات حزب المؤتمر السوداني، الذي شغل فيه منصب الأمين السياسي، والأمين العام، وصولاً لمنصب نائب الرئيس، وكان صعود خالد لمنصب الوزير قد أثار عليه وعلى قوى الحرية والتغيير هجوماً كثيفاً؛ لجهة أن الأخيرة حولت الثورة لمجرد محاصصات حزبية ومكاسب لأشخاص بعينهم، معيدة لما عُرف بنموذج (الشلة) الذي ساد في عهد النظام البائد.

خلاصة الأمر أن خالد عمر يوسف وصل للقصر الجمهوري، وشغل منصب الرجل الثاني في حكومة المؤسس عبد الله حمدوك، وهو في الأربعين من عمره، وهو الأمر الذي ربما أثار حفيظة آخرين لم يستوعبوا فكرة الصعود المتسارع لخالد في المناصب.

المفارقة أن الرجل الذي فعل كل شيء من أجل الحصول على المنصب الوزاري، في تقييم البعض هو من تسبب في سقوط الحكومة الانتقالية، وفتح الباب أمام انقلاب أكتوبر، وذلك حين قرر مواجهة المكون العسكري ورئيسه في الاجتماعات، بقوله: “نحن جاهزون للمواجهة إذا كان العنصر العسكري لا يريد شراكة”، بعدها تحول توصيف البعض لخالد من المتهافت على المنصب الوزاري للناشط الذي لم يبلغ نصاب القدرة على إدارة الدولة بعد.

المصادم والمتمسك برؤيته

يقول علي جمال مسؤول الإعلام بحزب التجمع الاتحادي عن خالد: “ربما يتفق الناس أو يختلفون في تقييم إتجاهات خالد التي قد تبدو أحياناً متناقضة، لكن ما يميزه هو شجاعته في الدفاع عن مواقفه، فخالد لم يتوارَ يوماً، بل ظلَّ على الدوام مدافعاً عما يؤمن به، ومتصدياً لكل الانتقادات، باذلاً نفسه للنقاش، وهو الأمر الذي حدث حين أعلن دعمه لخيار المشاركة في الانتخابات، كإحدى آليات مقاومة نظام البشير، وذلك قبل سقوطه بقليل”، ويضيف جمال: “لا يمكن أن تذكر هذه المرحلة من تاريخ السودان بدون أن يأتي ذكر خالد”.. اتفق معه الكاتب أو اختلف فهو يظل لاعباً أساسياً

ربما يمثل خالد جيلاً جديداً في السياسيين السودانيين، لكن في إطار حزبه خالد يمثل جيلاً مخضرماً لا يمكننا اعتباره من الجيل الصاعد في المؤتمر السوداني، عدم التواري والاستعداد لمواجهة الكل، هي ما صنع لخالد أعداء، خصوصاً أنه من جيل تربي في ساحات أركان النقاش التي ترى انتصارك على خصمك في قدرتك على إقحامك له، لكن البعض يرون فيه اعتزازاً بموقفه لدرجة اعتباره الصاح المطلق، دون وضع اعتبار للرؤى الأخرى. في كل الأحوال مضي خالد في رؤيته، وما يزال يفعل، وما يزال يخوض معركته القائمة على الثنائيات السودانية بتعدداتها المختلفة .

قائد المرحلة

الناشط السياسي، أحد المؤسسين لحزب المؤتمر السوداني، منتصر الزين، لا يرى غضاضة في الاعتراف بكون أن خالد عمر يوسف هو قائد المرحلة، بالنسبة لمنتصر: “فإن خالداً بذل جهداً حقيقياً تفوق فيه على الكبار والقدرو، نال ثقتي، أنا منتصر، كسياسي ناجح صمد في وجه كثير من التحديات، حينما فشل آخرون، والآن في طريقه ليصبح رجل دولة ( state man بغض النظر عن الخلل في السياق العام؛ لكن تطلعه الشخصي، واشتغاله على نفسه تزيد من حظوظه، بالتالي يستحق أن ندعمه ونعزز ثقته في نفسه ليفيد البلاد؛ وليس بالضرورة أن يكون خصماً لأنفسنا أو للآخرين، إنما من باب دعم كل صاحب طموح وناجح في شخصه، وموضوعياً نحن نحتاج فعلاً لرجال دولة في هذه المرحلة لديهم الثقة في أنفسهم ويحظون بثقة، ودعم الناس من حولهم وتذكيرهم بألا يخذلوا التطلعات المشتركة بيننا”.

لكن تتويج خالد باعتباره قائداً للمرحلة في سودان ما بعد الثورة يجد من يرفضه بقوله إن خالد لا يصلح لتحقيق غايات جيل كامل، وهو المنشغل بتحقيق تطلعاته الذاتية، وإن كانت على حساب الثورة، لكن خالد الأب لثلاث من البنات، والهلالابي للحد البعيد، العاشق لشعبه، والمؤمن بحتمية انتصاره، طالما أنه يواصل المعركة، وإن كانت في مسرح السياسة واتفاقها الإطارئ، مردداً المقولة: “ترى ما الحياة سوى قضية تمنح سنوات عيشك معنى وقيمة؟”.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.