ما كنتُ يا أبتي أخالني بذاكرة غربال، تسقط منها بعضٌ من تفاصيل حول أصل معدنك؟ كيف لي أن أسامح نفسي؟ ماذا لو كنتُ استرجعتُ تلك التفاصيل قبل اتخاذي لعددٍ من القرارات المصيرية وحدي؟ هل كان في الإمكان وقف تلك القرارات التي دفعنا بسببها نحن الاثنان الثمن؟
سامحني يا أبتي، إن كنتُ قد أغفلتُ ما تتمتع به أنتَ من سمات مثل رهافة حس، رقة مشاعر، عزة نفس، صفاء قلب، ونقاء سريرة، وكل صفاتك السمحة.
كان جسدك النحيل ينتفض من الحمى يا أبتي عندما يأتيك نبأ باعتقال شقيقك؛ بشير بابكر “السليك” عليه رحمة الله، كنتَ أنت تتألم، تتمزق، تصل حماك مرحلة الهذيان، تناديه، تهتف باسمه، تخشى من أن يعذبوا شقيقك، أن يغتالوه في غياهب سجون الطغاة، وعندما يأتيك خبر إطلاق سراحه؛ تهبُ كما الغزال رشاقةً وخفة، تتأنق بجلبابك الأبيض، تضع العمامة، وتحمل معك ذرةً وقمحاً، وتتوجّه إلى مدينة الصحافة، حيث يسكن عمي وأسرته، لم يكن قلبك الرقيق يحتمل مجرد فكرة تعرض شقيقك لاعتقال سياسي، فكيف يا ترى يتقبل قلبك إشاعة مقتل ابنك الكبير؟!.
نعم جاءك نبأ عن مقتلي، حدث ذلك قبل خمسة وعشرين عاماً، عندما حسمتُ أمري، توجهتُ شرقاً بعد تعذُّر النضال داخل الخرطوم، أصاب الموات الحياة السياسية، لا شيء غير قوافل بني كوز الناعقة بالأغنيات الجنائزية، الناذرة بالبؤس، كانت تملأ السماوات ضجيجاً بالوعيد، تعلن دحرجة البلاد إلى هاويةِ الجحيم.
كان الزمان قهراً، وصباح الخرطوم مكفهرٌ، ولياليها حبلى بالأكاذيب؛ مثل قولهم بمحاربة القرود والغزلان معهم في غابات الجنوب، وأحاديثهم عن هبة الله الذي يمشي فوق الأرض مرحاً، متوهماً أنه يبلغ السماء طولاً؛ فيما تتقاصر سلطته حتى تنتهي بقياس أطوال سراويل الفتيات، وملاحقتهن في الطرقات، وإلهاب ظهورهن بالسِّياط.
وشهوة المشروع الحضاري الأكذوبة تتفتح كشهية وحشٍ، تلتهم كل شيء، فمشروعهم الكذوب كائنٌ هلاميٌ متوحش؛ التهم قيم الخير، والحريات، ومشروع الجزيرة يا أبتي، لقد انتزعوا منكم فرحة الماضي، كنا ننتظرك يوم “صرف القطن” لتأتينا بالملابس والأحذية الجديدة، ولا أزال أشم رائحة الجنيهات الطازجة التي تعلن يوم فرحة الحصاد الكبير، لكن توقّف الحساب الفردي والجماعي، وجاءوا بعقود السلم التي تسرق عرقكم، فضعف الإنتاج، وسافر الأولاد إلى الخليج، ولا من شيء غير صدى أبو النيل:
طوريتك في الطين مرمية.
كوريتك فاضية ومجدوعة..
لا غيبتك كانت مطرية..
ولا فوتك كانت مبلوعة..
سائلين عنك ويوماتي رحيل..
في موانئ المدن النفطية..
سافر الأصدقاء والزملاء إلى تلك المدن، أملاً في تعويض ما خسروه في مشروع الجزيرة، وفضّل آخرون ممارسة أعمال هامشية؛ كانت أفضل من العمل في الزراعة، بينما يممتُ أنا وجهي شرقاً إلى أسمراً في عام ١٩٩٧ للالتحاق بالمعارضة، كان خياراً صعباً في تلك الظروف، هربتُ من ضيق سجن الوطن إلى رحابة أفق النضال، انقطعت أخباري عنكم لمدة عامين تقريباً، ما كنت أمتلك مالاً، ولا طاقة لنا هناك في المعارضة كي نعيش رفاهية الاتصال، انقطعت الأخبار منا وعنا ولا شيء سوى شائعات وخيالات وهواجس وظنون؛ وبعد عامٍ من سفري تفجَّرت أوضاع القرن الأفريقي، ودخل رفاق الأمس من قادة أديس أبابا وأسمرا في حربٍ دموية طاحنة.
مات خلال تلك الحرب عشرات من الشباب السودانيين غرقاً في نهر سيتيت الفاصل بين البلدين، بعد أن حاولوا الهروب من إريتريا إلى إثيوبيا، ونقلت إحدى الصحف نبأً عن مقتل عشرات المعارضين السودانيين الذين حاولوا عبور النهر سباحةً، ظننتني بينهم.
نقل أحدهم إليك يا أبتي أنني كنتُ ضمن الموتى، فدخلت أنت في نوبة بكاء وحزنٍ كبير.
عامان؛ كانت خلالهما أخبارنا مقطوعة، إلا عبر وسطاء لا تعرفونهم، ربما يلتقون بصديقي وابن خالي الحاج الطيب، المقيم وقتها بالسعودية. قالوا لي إنك خلال تلك الفترة فارقت هدوءك، تحولت إلى عاصفةٍ غضبٍ تهبُ في وجه كل من يسألك عني بشماتة؟ أين أنا؟ ماذا أفعل في أسمرا؟ والويل لمن يقذف في أذنيك بشائعة موتي، تزمجر مثل أسدٍ جريح، تلك الفترة الوحيدة التي أخرجتك يا أبتي عن طبعك الهادئ الرزين، تبكي في صمت، وتبتسم حين ترى رفاقي، عاطف، وبشير، ومحمد نور، تراني فيهم، تبتسم، لكنك تبكي من ورائهم. هل تسامحني؟؟
كنت أنت يا أبتي مثل سيدنا يعقوب، تبحث عن يوسفك الصديق، وكلما تطاول أمد الفراق تعمَّقت عبراتك، تفجّرت أنهار أدمعك، كان يمكن أن تفقد بصرك من شدة الحزن الكبير، والدموع التي لا يراها إلا من يفاجؤك دون أن تشعر به، أتخيلك تبحث عن قميصي كي تشم ريحه، تخشى من أن يأكلني ذئب البعاد؛ وتكونن أنت من المفجوعين!
يا أيها “الشجرة الظليلة” لكل الناس، لم يكن غريباً أن يناديك الجميع “بجدي” لمكانتك بينهم، ذات مرة، صاح عثمان التواري، عليه الرحمة منادياً “يا جدي الشيخ” سمعه أحدهم، فرد عليك مستغرباً، يا التواري، أنت أكبر من الشيخ سناً، ثم أن أهلك من “قبيلةٍ مختلفة، فكيف يكون جدك؟” لم يسكت عمنا التواري، فهو رجل حاضر البديهة، سريع الردود، ناس فلان ديك بقولوا جدي الشيخ، بقت عليّ أنا؟
كنت جداً للجميع، وعشت كبيراً، ومت مبجلاً، لأنك لم تكن بين الناس لمَّازا، ولا همَّازا، ولا ببذيء لا تعرف فواحش الخصومة، ولا يتلوث فاك بساقط القول، ولا تلطخت يداك بحق أحد، بل تطهرت أناملك من نور التسبيح، وتعفرت رجلاك من ” المسساقة” بين الحواشة والمسجد، والدكان.
دكانك يا أبتي، الذي يتحول إلى منتدى سياسي، أو “دكان ود البصير” مثلما يسمونه على البرنامج الإذاعي الشهير، تشق تعليقاتكم ظلمة الليل، تتخلّلها ضحكات ناصعة البياض، يغطيها أحياناً صوت “البيارة” يدق من بعيد، أو أنين “دقاقة” تحصد القمح تحت ضوء القمر، فيمتزج ليل أم مرحي الصوفي الشفيف بصخبٍ قادمٍ من نادي القرية، وتمتزج الحكايات بالضحك، وبرائحة الحلو مر الطازج، فوق ناره، والشهر شعبان، ويا ليالي أم مرحي، “ويا ليلى ليك جنّ معشوقك أوّه أنّ”.
كان مجلسك عامراً بالحكايات والسياسة والرياضة، فشل الحكومة، مهددات الموسم الزراعي، مدير المدرسة الجديد، مغالطات هلال مريخ، وللهلال والمريخ ذكرى، تطلب مني تناول العشاء مبكراً لأنك تأمل بفوز المريخ على الهلال، وتعرف تعصبي الشديد للموج الأزرق، ومع ذلك تحزن إذا ما جاء “مريخاب” القرية، وعلى رأسهم “أولاد القرد” يغنون ويرقصون أمام بيتنا، وينادونني باسمي حال فوز الأحمر الوهاج.
سنوات قضيتها أنت يا أبتي غارقَاً في أنين المواجع، ولجَّة الفواجع، وسنواتٍ قضيتها أنا بحالٍ مثل حال المتنبئ
فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقاماً
وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا
عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي
أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالاً
وانفرج الحال نسبياً حين تفرغتُ للعمل الصحفي في أسمرا، وعملتُ مراسلاً لصحيفة “الحياة” اللندنية، وصار اسمي يكتب يومياً في الصفحة الأولى، يقرأه الأقارب والأحباب من المغتربين في دول الخليج، فيخبرونكم بفرحٍ غامر أنني بخير، بل يتحدثون بفخرٍ عن ابن قريتهم الذي يكتب الأخبار في كبريات الصحف العربية، وتحسَّنت الأحوال نسبياً، فامتلكت في بيتي هاتفاً خاصاً وفاكساً لإرسال الأخبار، فصار التواصل بيننا سلساً بعد أن كان ترفاً، ومع كل ذلك حزمت أنت حقائبك، وجئتني في أسمرا، بصحبة ابنتك المطيعة عواطف، كان يدفعكما الحنين دفعاً، ولا تسعني الفرحة برؤيتكما بعد ستة أعوامٍ من الغياب.
ثم عدتُ إليكم؛ لا كما يعود المغتربون محملين بالهدايا والجواهر، والريالات والدولارات، ولا مثلما عاد بعضُ “رفاق النضال” للاستوزار، والمجالس التشريعية، بل وللمطالبة بتعويضات مالية عن فترة نضالهم، نال بعض وزارات، وبعضهم أراض، وبعضهم عضوية مجالس تشريعية، وعدتُ أنا إليكم من الغنيمة بفرحة الإياب، وما أجمله من إياب!
ثم من جديد، اشتد الحصار حولي، لا خيار أمامي يا أبتي سوى النزوح من جديد، أين؟ ألملم جراحاتي وأرحل إلى البعيد، أغني مع جاويش “في المداين الضايعة لي زمن” أهاجر مثل ملايين الطيور التي تهاجر في أزمنة النزوح واللجوء، امتلأت بنا السماوات الرحيبة حتى ضاقت، والمطارات حتى ملّت، والمحيطات البعيدة حتى أنَّت، والموانئ حتى ضجّت، والطرقات الطويلة كلّت من سيرنا اللا منتهي.
هل أنا مثل يونس يتربص بي حوتُ أشر؟ البحرُ مدٌ وجزرٌ، صخبٌ وسكونٌ، ضحكٌ وبكاءٌ؛ وبحري أنا اضطرابٌّ يرتعش للفوضى، مثلما يرتعش الجسدُ لحظات توهجٍ وانتشاء، يرتعش البحر لابتلاعنا كي تبتهج الحيتان، والبحر أمامي مسافات بلا نهايات، أفقُ لا منتهي، ظلمات وسديم، سفنٌ تمخر عباب الموج، وسواحلٌّ بعيدة قد لا نصل إليها.
هل كان لي أن أخبرك بنوايا في الهروب المستديم؟ هل كان قراري وحدي أن أسافر، أن أهاجر؟ نعم أتحمّل كل تباعاته الشخصية، لكن كيف لي أن أنسى أن بعض القرارات ليست لي وحدي؟ بل قد تهم آخرين، أنت بالذات، لقد نسيت اهتزاز جسدك النحيل من الحمى أيام اعتقال شقيقك، دفعت أنت ضريبة لين قلبك، وثقتك في اختيارات ابنك.
ومرةً أخرى ترفرف أجنحة طائري، تحلق، أمضي في هجرة ثانية، كانت هجرتي الأولى في أرض “الحبشة” ثماني سنوات، لتتقسم هجرتي الثانية؛ ما بين أم الدنيا والدنيا الجديدة، أو بلاد الصقيع لمدة ثماني سنوات لتصير غربتي ستة عشر عاماً، تركتك للذكرى والألم، الأقمصة والصور، وتركتُ نفسي “كأني مديون بالعذاب”.
وها هي الهجرة الثالثة.
ساورتني ثمة هواجس هذه المرة، من أن تكون هذه المرة هي الأخيرة بيننا، شعرت يومها عندما انطلقت السيارة بعيداً عنك أنني لم أشبع من حضنك، خشيتُ من أن يكون هو الحضن الأخير، حاولتُ طرد قلقي، طمأنت نفسي، قلتُ “مؤكد سوف أفعلها المرة القادمة”. وهل من مرة قادمة؟ أخرجت نفوس الأشرار ما بها من سخام، طارت وعلقت في السماوات سحب كراهية، فأمطرت دماءً.
كان الطوفان؛ فأخرجت الأرض أثقالها، وحقق أولئك الأشرار أشواقهم “فلترق كل الدماء” بل أراقوا كل الوطن، فانتشرت أوبئة النفوس الطعانة واللَّعانة، وتهدمت بيوت، وانهارت مشافٍ، وفضحت الحرب هشاشة الدولة، وكسرت هيبة المركزية المتخيَّلة، فلم يجد مثل أبي علاجاً، ولا فرصةً للسفر لعلاجٍ في الخارج، ولم أحظ أنا بنظرة الوداع الأخيرة، فلا صليتُ على جسدك، ولا بكيتُ على صدر أمي، ولا أفرغت أحزاني في “قلدة أخواتي وأخواني”. بكيتُ وحيداً في عام الرمادة، الحرب وموت الأحباب، رحل عمي إبراهيم، ومن فارقتك الصحة، كنت تنتظر شقيقتك “الروضة” كي تسافر إليها، وودعت ابن أختك نور الدائم، وأنت جالسٌ فوق الأرض حزين، عند ذهابه الى المستشفى علمت أنك قلت لهم ” ةنور الدايم تاني ما برجع” وصدقت نبوءتك، عاد جسداً بعد يومٍ واحد، ويوم رحيلك طلبت عفو شقيقك الهادي، لأنك لن تراه مرةً أخرى، وقد صدقت يا أبتي، فقد رحلت أنت، ويا لغرابة الصدف، فقد أخبروني يا أبتي أن شقيقك الهادي، عندما جاءه نبأ رحيلك، قال “الشيخ مات أنا القاعد ليه شنو؟” فرحل في اليوم التالي. يا لها من شفافية موجعة، ويا لها من نظرات مؤلمة، ويا له من تنبؤ عجيب!
صرتُ اليوم يا أبتي يتيماً مرتين، يتيم الأب والوطن، حرمتُ نفسي منك، واليوم هنا وحيداً خلف المحيط؛ جسدي مقرورٌ من وقع البرد والوحشة والوحدة والغربة، وأنا منذ أن ولدتني يا أبتي؛ لا أزال أبحث عني، عن عنواني، مسكني الحقائب، المطارات، أعبر القارات والأمكنة، والأزمنة، كأني ولدتُ داخل ريش جناح طائرٍ ضخم لا يمل من التحليق والسفر، ملابسي، وكتبي تتقاسمها المدن؛ قميصٌ في الخرطوم، وبدلة في أسمرا، وشنطة في جوبا، وأحذية في القاهرة، ونيوهيفين، وجلبابٌ في أم مرحي، وكتب مبعثرة هنا وهناك، تأبى الحقائب حملها، فأتركها خلفي على وعد الرجوع منية.
يا أبتي اليوم أنت، بين يديَ عزيزٍ مقتدر، تقف أمام حكمٍ عدل، ترفرف روحك في السماء لدى رحيمٍ غفور؛ أطلب منك السماح؛ لقد تركتني يتيم الأب؛ لا فرصة أخرى كي أحضنك بعد اليوم، ولا أمل لكلمة أبوي وما تحمله لي من شحنات حنان، ربما لذلك أسعد حين يناديني حفيداك؛ نورس ومراسي/ أبوي، بابا، فأنا لا تعجبني كلمة “دادي” “المعلبة”.
وأنا كذلك؛ يتيم الوطن، لا تزال المدن والمطارات والفنارات والسفن تأخذني إلى البعيد، تمزقُ السياط قلبي المفجوع.
يا أبتي لقد بلغت مساحات الأسى فينا مليون فجيعة، وأمراء الحروب، يضرمون النيران، يقطعون رؤوسنا، ثم يستخدمون جماجمنا كؤوساً لشرب أنخابهم، ومطفآت لرمي أعقاب ورماد سجائرهم، يستخدمون أصواتنا أوتاراً، يعزفون عليها ألحانهم الجنائزية، هؤلاء؛ شحيحو الأنفس، تلك الأنفس التي لا تحتمل الآخر بمبرر أكذوبة “نقاء عرق”.
Comments are closed.