كتب المؤرخ نعوم شقير: (هجم محمود ود أحمد ورجاله على المدينة وقتلوا عبد الله ود سعد ورجاله عن بكرة أبيهم وسبوا من النساء 366 ومن الرجال قتلوا 2000 وارتكب رجاله من المنكرات ما تقشعر منه الأبدان، وكانت النساء يلقين بأنفسهن في النيل يفضلن الموت على حياة الفضيحة والعار). وفي روايات أخرى، أن جنود ود أحمد كانوا ينزعون الرضع من أمهاتهم ويهوون بهم عاليا ثم يتلقونهم بأسنة الحراب.
خشي الخليفة من انتقام الجعليين والشايقية فمشط جيشه القرى الآمنة فاعتقل 23056 من الجعليين و12266 من الشايقية وقادهم إلى أم درمان ولم يتم تخليصهم من الإقامة الجبرية إلا بعد سقوط أم درمان في يد البريطانيين وفرار الخليفة جنوبا إلى أم دبيكرات، وتم إلقاء القبض على السفاح محمود ود أحمد بواسطة قوات من السودانيين والأفارقة والهنود المجندين في صفوف الجيش البريطاني، ومات في المنفى.
هذا منقول عن المؤرخ شقير، وبدايةً لا بد من التأكيد أنني وإلى وقت قريب كنت اعتبر ان هذه الروايات تحتمل المبالغة والتهويل، طبعاً باستثناء قتل امير الجعليين عبد الله ود سعد وإبادة حوالي 2000 من أتباعه واستباحة المتمة، فهذه كانت محل استقصاء وتثبت من عدد من الباحثين، وكنت استبعد ما ذكر من حالات سبي النساء وقتل الأطفال وانتحار النساء بالقفز فى النهر، والاختلاف بين الرواة عن استشهاد الخليفة علي (فروته) في أرض المعركة، وهي سردية اوردها المؤرخ السوداني عصمت زلفو عن اللحظات الأخيرة في حياة الخليفة فكتب: عسكر الخليفة في أم دبيكرات، وفي آخر خطبة له وهو يدرك دنو لحظات المواجهة الأخيرة مع العدو، أشاد بأنصاره الذين وقفوا معه حتى الرمق الأخير واخبرهم بأنه قرر مقابلة العدو والاستشهاد في ذلك المكان، وأذن لمن أراد منهم النجاة بنفسه أن ينسحب، وقال لهم، أنا عافي وراضي عن الجمي.. (أي على الذي على جانبي) ثم جلس على الفروة، او تلك الروايات التي جاءت فى مذكرات بابكر بدري او مذكرات يوسف مخاييل؛ تحقيق البروفيسور احمد ابراهيم ابوشوك، او مذكرات محمد عبد الرحيم، ومنشورات الإمام المهدي للبروفيسور محمد ابراهيم ابوسليم، والتضارب الكبير فيها.
الاستناد على التشكيك فى رواية نعوم شقير و
آخرين، جاء استنادا على مجهود ضخم عكف عليه الاستاذان محمد علي جادين وعبد العزيز الصاوى (عليهما الرحمة) ، تحت مسمى (الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة) وطبع فى كتاب، وهو يعتبر من اهم الكتابات التى حاولت اعادة النظر فى تاريخ الثورة المهدية ، انطلق هذا المجهود من رؤية فكرية جديدة لموضوع الثورة المهدية، إذ أن هناك استحالة حقيقية في الوصول إلى فهم متكامل للفترات التي سبقت الثورة المهدية وتلك التي تبعتها دون استكمال صورة الثورة نفسها، كما أن ما تبعها تأثر بها بشكل أو بآخر، وعلى ذلك فإنّ الاهتمام بتحليل الثورة بمنطق جديد، يتجاوز في الواقع حاجات فهم التاريخ إلى استنباط دلالات سياسية وفكرية معاصرة ومستقبلية تنتمي للماضي بقدر ما يمتد التاريخ في الحاضر والمستقبل، وكان الاستاذ جادين (رحمه الله) يقول فى ظل شح المعلومات الموثقة وتداول كتابات ومذكرات لم تستوفِ ادلة كافية، لا بد من اعمال منهج الاستنباط والتحليل لفهم ما حدث.
المتمة تعرضت الى نكبتين فى تاريخها الحديث، الاولى على يد الدفتردار، ثأراً لمقتل اسماعيل باشا، وكان ذبح المدنيين تحديداً من الوسائل المروعة التي استخدمها الدفتردار في القتل والتنكيل، اضافةً للسبى والاغتصاب وقتل الاطفال، اقدم الدفتردار على حرق أهالي المتمة الذين تدافعوا للاحتماء بخلوة الشيخ أحمد الريح، ليتم القضاء عليهم حرقاً بالنار وهم أحياء في العام ١٨٢٣، والنكبة الثانية على يد الأمير محمود ود أحمد انتقاماً (لتقاعس) الجعليين فى نجدة الخليفة ومده بالمقاتلين.
ان ما حدث فى قرى الجزيرة من مذابح وإبادة يتطابق الى حد كبير مع ما جرى فى المتمة، من قتل وإبادة ونهب واغتصاب ، وبأسباب واهية كما فى كتلة المتمة الأولى والثانية، حيث طلب محمود ود أحمد مغادرة الأهالي للمتمة، محذراً ان بقاءهم فيها سيكون سبباً لقتلهم، وهي معاقبة مجتمع كامل بعد القضاء على المحاربين، او فى غيابهم، ويتشابه الأسلوب فى ارتكاب الفظاع بقسوة بالغة وبأقصى ما متاح من طرق القتل والتدمير، الفاعل فى الحالتين كان يمتلك الاسلحة الفتاكة فى مواجهة المواطنين العُـزّل، الفاعل فى الحالتين لا يستثنى احدا، شيخا كان او امرأة او طفلا، نساء الجزيرة حفيدات النكبة الأولى ألقين بأنفسهن فى النيل، وفضلن الموت غرقا على الخضوع للاغتصاب، البدايات تتشابه كما ستكون النهايات، الجزيرة حتماَ ستنتصر… انتهى.
وجود أسماء شخصيات او اوصاف لها فى المقال ورد فى المراجع المذكورة وليس بقصد التقريظ أو التجريح.