جريمة أبكت مرتكبها قتلة تاجر (الصالحة).. تفاصيل البحث عن متهم بين الجبال!

أم درمان: محمد أزهري

السادس من أغسطس المنصرم، استيقظ سكان الصالحة بأم درمان على طقس بارد تسللت نفحاته عبر (الشبابيك والمناور)، البرد أخذ قوته في ذلك الفجر من أمطار غزيرة انهمرت بالمنطقة، فكان لا بد من (تعديل) مزاج بعض سكان مربع (5) بكباية شاي، فاحتاج أحد سكان الحي أن يجلب لها سكراً من صاحب (دكان) يشتهر بينهم بالطيبة ويتميز بدفتر (الجرورة) المفتوح للجميع.

دكان آدم
(دكان) آدم الذي يناديه أطفال الحي بـ(بابا آدم) لأنه يدس لهم الحلوى بين صنوف السلع مجاناً، يقع شمال غرب مسجد التقوى، ذهب من أراد جلب السكر (يخوض) مياه السيل ويأخذ من محاذاة الحوائط طريقاً، وقبل وصوله رأى شيئاً يبدو غير طبيعي لأن المياه قرب (الدكان) كانت مختلطة بالدماء لكنه لم يتوقعها أن تكون دماء آدم، لكن كما يقول المثل (تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن)، فكان آدم في تلك اللحظة جسداً بلا روح يتوسط مظلته مسجياً على الأرض بفعل (32) طعنة اخترقت جسده وأرسلت روحه إلى بارئها.

من الذي قتل آدم؟
من شاهد آدم قتيلاً أطلق الخبر إلى بقية سكان الحي فكان العزاء عاماً والحزن للجميع، وأمام دكانه امتزجت الدموع بمياه الأمطار ودماء القتيل، الذي ظل يعمل بين أهالي المنطقة لـ(13) عاماً دون خرق لعاداتهم أو شيء يبيح قتله، لذا كانت الحيرة حاضرة بين السكان الذين اتفقوا جميعاً على السؤال (من الذي قتل آدم؟!!)، هذا السؤال المهم ظل مجهول الإجابة إلى أن خرجت مباحث شرطة ولاية الخرطوم التي ظلت تعمل في صمت وأجابت عنه أمس (الأحد) بملء فيها.

أشواك (المنشينيل)
غموض أشبه بحالة من يبحث عن (إبرة) في ظلام حالك بين أشواك شجرة (المنشينيل)- شجرة أشواكها سامة وطعنتها قاتلة- التفت حول الجريمة.. لكن فريق المباحث عثر على خيوط عند زيارته لمسرح الحادثة وهي المظلة الخارجية لـ(الدكان)، إذ وجدت بها فتحة مقصوصة بمقص مخصص لقطع الحديد، يبدو أن الجناة تسللوا عبرها، حسب معاينة فريق البحث حيث تبين أن الجناة أكثر من شخص نسبة لوجود آثار عراك وهذا فسره الفريق بحدوث مقاومة شرسة من الضحية للجناة.
الجثة كانت ممددة على الأرض عليها طعنات أحصيت بـ(32) طعنة، لا وجود لأداة جريمة غير منديل باللونين الأبيض والأزرق على الأرض احتفظت به الشرطة، خرج الفريق يحمل الجثة إلى المشرحة، ويحمل كذلك عزيمةً وإصراراً على كشف ذاك الغموض.

ماذا قالت الشرطة؟
نائب مدير مباحث ولاية الخرطوم العميد شرطة أمين سعيد قال في حديثه لـ(السوداني) أمس، إن الجريمة كانت غامضة حقاً، إذ لا وجود لدليل مادي غير آثار عراك بمسرحها وبعض الأشياء التي احتفظنا بها، ويضيف منذ يوم الجريمة كلفنا فريقاً للبحث والتقصي، ورغم الغموض إلا أنه تحصل على معلومات عن تحركات أحد المتهمين بعد إجرائه معاملة مع شخص آخر بالسوق الشعبي. ومن هنا بدأنا عبره في تحديد هوية الجاني، ورغم تعقيد المهمة توصلنا إلى أن الجاني الرئيسي فر هارباً إلى ولاية شمال كردفان، حيث كلفنا فريقاً بقيادة الملازم أول عبد العزيز العشاري لإنجاز المهمة رغم علمنا بصعوبتها لكن كان همنا الأول والأخير هو القبض على المتهمين ولو كلف ذلك الكثير.

قائد ذكي
قائد الفريق الملازم أول عبد العزيز العشاري التقط قفاز الحديث، وقال لـ(السوداني): تحركت في مأمورية إلى ولاية شمال كردفان على رأس قوة متمرسة من أفراد المباحث، وهم المساعد النور آدم النور – المساعد جمال عبد الله محمد أحمد – الرقيب أول عادل آدم سعيد – وكيل عريف جمال محمد إبراهيم – وكيل عريف إلياس عثمان إلياس، والجندي محمد عبد الله محمد. قاطعاً بأنهم كانوا يعلمون بأن المهمة صعبة، وأضاف: لكن عزمنا على ألا نعود إلا ومعنا الجاني.
وأشار إلى أنهم عقب وصولهم مدينة الأبيض، توفرت لديهم معلومات بأن المتهم الرئيسي يوجد فيها، واضاف: نشطنا مصادرنا هناك لكن أول خيبة أمل أصابتنا أن المصادر أكدت مغادرة المتهم للأبيض ودخوله منطقة (الدبكر) التي تبعد (25) كلم من أبوزبد لكن عزيمتنا لم تلن، وتابع: ذهبنا إلى هناك وكانت المفاجأة المحزنة أنه غادر (الدبكر) أيضاً إلى منطقة (انجمينا) وهي منطقة بولاية شمال كردفان وليس العاصمة التشادية، ومنها طار إلى منطقة (الكضمت) وهي منطقة جبلية طٌرقها وعرة، منوهاً إلى أن معلوماتهم حول المنطقة لم تكن مبشرة، إذ إن كثيراً من الناس أفادوا بأنها منطقة يصعب الوصول إليها لذلك لجأ إليها المتهم.

يقظة النور
قائد الفريق “عبد العزيز” يذهب في حديثه لـ(السوداني) إلى أنهم مكثوا يوماً وليلة في أبو زبد، وأنهم في صبيحة اليوم التالي تناولوا الإفطار، وأضاف: أثناء بحثنا في السوق التقط المساعد النور آدم النور مفاجأة من العيار الثقيل، لم نكن نتوقعها حيث رأى متهماً آخر غير الذي نبحث عنه لكنه أيضاً مطلوب لدينا في جريمة قتل بقسم أبو سعد إذ قتل صديقه وهرب قبل ستة أشهر، مؤكداً أنه أقر بجريمته فور القبض عليه.
قائد الفريق واصل حديثه بالقول: عدنا إلى الأبيض دون القبض على متهمنا الرئيسي لكن معنا متهم آخر رغم أننا لم نبحث عنه لكنه قلل من خيبة أملنا، ويتابع: في الأبيض كثفنا بحثنا ونشطنا جميع مصادرنا وتوصلنا إلى معلومات مهمة تقول إن المتهم يختبئ في جبال المنطقة التي غادر إليها، يستكين أيام العمل ثم يتحرك في أيام العطلات الرسمية، وأهم ما جمعناه من معلومات أنه ترك زوجته في الأبيض، وهذا ما عزز ثقتنا في عودته مرة أخرى، ومن هنا بدأنا البحث عن مقر سكن الزوجة وتوصلنا إليه ومن ثم وضعناه تحت الرقابة، لكنها رقابة باحترافية من أعضاء الفريق، حيث رصدنا يوم (الخميس) معلومات تفيد بأن أشقاء المتهم باعوا هاتفاً للمتهم وأرسلوا له المبلغ، وهنا التقطنا إشارة مهمة وهي أن المتهم (فلس) أي انتهى ما لديه من مال، وبالتالي سيعود عقب انتهاء ما أرسل إليه من مال، وبالفعل عند الحادية عشرة من ذات اليوم رصدنا دخول شخص غريب للمنزل، وتوقعنا أن الشخص الغريب هو المتهم نفسه وفقاً لما أكده مصدر.
“العشاري” كشف عن أنهم بعد تأكدهم من شخصية المتهم كانوا كفريق أكملوا 11 يوماً من التعب والرهق بين البحث والتقصي، وأضاف: لذلك أحكمنا خطتنا جيداً لمداهمته حتى لا يفلت ونجني السراب، وعند الساعة السادسة صباحاً كان المتهم بين أيدينا ولم يراوغ كثيراً حيث أقر بارتكابه الجريمة، وأرشد على شخصين آخرين قال إنهما معه، لنعود إلى الخرطوم ظافرين، وأضاف: داهمنا منزلين منفصلين بمنطقة (هجيليجة) بالصالحة وألقينا القبض على الشخصين الآخرين.

(أنقذوني)
المتهمان الأول والثاني أقرا بقتلهم للتاجر وقالا في التحقيق إنهما برفقة الثالث اتفقوا على سرقة (دكان) الضحية، لكن المتهم الثالث غير رأيه ولم يصل معهما (الدكان)، وأوضحا أنهما قطعا (السكسبندا) بمقص حديدي كبير دون أن يشعر بهما التاجر إذ كان يغط في نوم عميق، حتى توغلا وبحثا دون أن يجدا شيئاً، فقررا إيقاظ التاجر وقبل ذلك وجدا مسدساً أسفل فراشه فأخذه أحدهما ووضعه على رأس التاجر، ومن ثم أيقظه لكن التاجر كان يضع الطلقة (مقلوبة) داخل الماسورة هذا ما جعله ينهض ويقاومهما بضراوة، ويضيف المتهمان أن الضحية أمسك بأحدهما من عنقه جيداً لذلك انهالا عليه طعناً في أجزاء متفرقة من جسده.
المحزن أنهما كشفا عن أن الضحية قبل وفاته قال لهما (أنقذوني.. أنقذوني) بعد أن أثخنت الطعنات جسده، لكنهما فرا هاربين، وألقيا أدوات الجريمة (سكينتين ومقص) داخل (مرحاض) بمنزل أحدهما، استخرجتهما الشرطة ووضعتهما معروضات في البلاغ.

لماذا أجهش المتهم بالبكاء؟
داخل مقر مباحث فرعية أم درمان وقف رئيس قسم الصالحة أمام المتهم الرئيسي “ع” ثم أخرج هاتفه وعرض عليه صورة منديل فأجاب المتهم (دا منديلي أنا)، فقلب الصورة التالية وهي لجثمان الضحية وتظهر عليه آثار الطعنات، وهنا سقط المتهم أرضاً وأجهش بالبكاء، لتفشل محاولات أفراد المباحث في تهدئته، بينما ظل المتهم الثاني “أ” يخفض رأسه إلى الأسفل.

الأهالي يشكرون الشرطة
أهالي الصالحة الذين عاشوا أياماً بين الحزن على مقتل (آدم) والحيرة على غموض قتله، والترقب لفك طلاسم الجريمة، خرجوا يهللون ويكبرون أمس ولسانهم يلهج بالشكر والثناء لشرطة ولاية الخرطوم التي يقف على رأسها الفريق “خالد بن الوليد”، وهو يتابع بدقة ما جرى حتى أماطت مباحثه اللثام عن الجريمة وقدمت ثلاثة متهمين، أعادت بهم الثقة لدى الأهالي والطمأنينة في بيوتهم ومتاجرهم في حلهم وترحالهم.

الشرطة حاضرة
مدير إعلام شرطة ولاية الخرطوم العميد د.”حسن التجاني”، قال لـ(السوداني) إن شرطة الولاية ستظل العين الساهرة لأجل أمن وسلامة المواطن في نفسه وممتلكاته، وأضاف: لن نترك بلاغاً يسجل ضد مجهول من خلال تكثيف الخطط الأمنية المحكمة التي تضعها الشرطة دوماً على مدار العام متضمنة كل الإجراءات القانونية التي تسهم في تنفيذ الخطة وفق القوانين الجنائية والإجرائية.
التجاني الذي وقف ميدانياً على إنجاز مباحث ولاية الخرطوم في جريمة تاجر الصالحة أمس، يشير إلى بذل الشرطة الغالي والنفيس من أجل أمن وسلامة المواطن ويؤكد هدوء الأحوال الأمنية واستتباب الأمن رغم الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.