خارج الدوام محمد عثمان إبراهيم

وكت سيرتك يجيبوها ٢-٢

شارك الخبر

حين يتم تشكيل الحكومة الجديدة سيكون من بين مهام الوزراء الجدد تصحيح الكثير من خطايا نظام الإنقاذ وهناك عبء كبير سيقع لا محالة على وزير التعليم العالي الذي سيتعين عليه إصلاح الوضع في الجامعات، وتصحيح الأسس التي يتم بها منح الشهادات العليا لكن ينبغي أن يتم ذلك بحذق ومهارة ورغبة في الإصلاح، وليس بموجب قوة دفع الشارع حيث الحماس للفضائح، والانتقام، وإشانة السمعة، وهو ما قد يترتب عليه ضرر بالغ إذا مضى الأمر إلى درجة فقدان الثقة بالنظام التعليمي. إن الإصلاح عمل إيجابي ينبغي أن يبني على ما تحقق مصححاً المسار، وهو بهذا المعنى نقيض الهدم، والانتقام، والتشهير.
اعتمدت الحكومات الوطنية التي نشأت ما بعد الاستقلال على مجموعة من التكنوقراط المتحزبين سياسياً لفترات، وغير الحزبيين في بعض المناسبات، لكن لم تكن السيرة الذاتية ذات قيمة بأي شكل كان. لقد كان عنصر (التشبيك السياسي) هو الحاسم وهو ما اضطر الكثير من ذوي التدريب الأكاديمي والكفاءة إلى الانتماء إلى بعض القوى السياسية التي لا تلائم أفكارهم وطروحاتهم، ولكنها تحقق تطلعاتهم وذاك أمر مشروع ـ بطبيعة الحال ـ في السياسة حيث البراعة تكمن في تحقيق الممكنات.
في نظام مايو اعتمد الرئيس جعفر نميري في البدايات على فريق صغير من معارفه وأصدقائه في إدارة الدولة وفي بعض الأحيان كانت القرابات السياسية تذهب إلى الدرجة الثانية حيث يرشح بعض الأصدقاء أصدقائهم المقربين له وقد روى الدكتور منصور خالد كيف أنه كان يعرف نميري شخصياً منذ أيام الطلب في الثانوية وأنهما ينتميان إلى حي سكني واحد، وكيف أن صديقه الشيوعي محجوب عثمان رشحه للدخول في بلاط السلطة (حلقات برنامج الذاكرة السياسية على قناة العربية)، ولعل أهم ما يلفت في هذه الحكاية أن ترشيح الراحل محجوب عثمان لصديقه الدكتور منصور كان ضد رغبة الحزب الشيوعي (شبه الحاكم حينئذٍ) لكن قربى الحي وأم درمان كانت متجاوزة للفكر والتوجه السياسي.
وفي كتابه الصادر باللغة الإنجليزية بعنوان (نميري وثورة الخذلان) روى الدكتور منصور خالد أنه ذهب برفقة الوزير الراحل عمر الحاج موسى لإثناء نميري عن توزير أستاذ جامعي سابق كان مفصولاً من عمله بناء على مجلس محاسبة أدانه بمخالفة ليس هنا المكان المناسب لذكرها، ولكن نميري رفض الاستماع إليهما والأخذ بنصائحهما وحججهما، وأصر على تعيين الرجل في وظيفة سامية لا علاقة لها بتأهيله الأكاديمي وبخبرته العملية! لا قيمة البتة لكتاب السيرة الذاتية لدى النميري!
بعد سنوات قليلة على سقوط نظام نميري سيحكم البلاد جنرال آخر وافق على اقتسام السلطة مع آخرين كانوا جميعهم متفقين على إهدار معنى السيرة الذاتية فتم توزير الدكتور علي الحاج والدكتور بدر الدين طه وغيرهما، لكن القصة الأكثر إثارة كانت عما حدث به الرئيس المعزول عمر البشير ضيفه السفير الأمريكي دونالد بيترسون عن أنه قام بتعيين (فلان) وزيراً في حكومته رغم رفض البعض له بسبب علاقاته بوكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه). تحكي بقية الرواية الصادمة أن سعادة الوزير حافظ على صلاته برئيس محطة التجسس الأمريكية في الخرطوم، وأنه سافر في إحدى المرات إلى أوروبا ليتمكن من لقائه بعيداً عن عيون (العوازل) وكيد الوطنيين! يصعب في كل العالم تصديق أن رئيس الجمهورية يعرف أن أحد المواطنين (جاسوس) فيوفر له الحماية ويعينه ضمن الطاقم الوزاري! تقول الرواية القديمة المكررة إن أحد المسؤولين كان عميلاً لدولة أجنبية وإن عمالته اقتصرت على أنه كان يقوم بتعيين المرشح الأسوأ والأقل كفاءة من بين كافة القوائم التي ترفع له للاختيار من بينها! ترى هل كان البشير عميلاً لجهة ما؟ ما هي تلك الجهة؟ وماذا قدمت له؟ فقد كان وفياً في الكثير من فترات حكمه على انتقاء أردأ العناصر لأرفع المهام؟ وفيما عدا بعض الاستثناءات التي اضطرته لها موازنات القوى الحزبية والجهوية، فإنه ظل وفياً للعناصر الأضعف والأقل تأهيلاً والأكثر سوءاً لتقوم بالكثير من المهام الصعبة وكلنا ندفع الآن الثمن الباهظ الناتج عن محصلة تلك الاختيارات الخطأ. لا حاجة لإيراد أمثلة البتة للاختيارات الخطأ، بل الأسهل أن نتذكر القلة من الاختيارات الصحيحة التي فرضتها عليه الظروف!
في صناعة التوظيف وهي صناعة حقيقية في الكثير من الدول الغربية تعني بتوفير فرص العمل المناسبة للأفراد من محترفين وغيرهم، يقوم المختصون بعدة عمليات لمساعدة المرشح في الحصول على الوظيفة لقاء مقابل مادي، وتبدأ عملية صناعة الموظف من كتابة سيرته الذاتية، وحتى عمل التدريبات المطلوبة للمعاينات، ويشمل ذلك الملابس، والمظهر المناسب، وطريقة الحديث. يحذر الخبراء عادة من تقديم معلومات غير حقيقية أو مضللة في السيرة الذاتية ويطالبون المرشحين دائماً بالتركيز على نقاط القوة لديهم، ومحاولة بيعها أو إغراء أصحاب العمل بها وذلك أمر مشروع. في السودان لا توجد مثل هذه الصناعة حتى الآن، ولا توجد مؤسسات توظيف للمهن الاحترافية إذ يقتصر عمل وكالات الاستقدام والتوظيف على عدد محدود من المهن ذات الصلة بتدبير شؤون المنازل، لكن العالم يتطور بإستمرار وسنرى في الغالب ازدهار مثل تلك الصناعة قريباً.
لو كانت لدينا مثل هذه الصناعة لأسهمت في كتابة سيرة ذاتية جيدة لوزير مخضرم من وزراء الإنقاذ كان الرئيس المعزول يقود حملة قارية لتوظيفه في أحد المناصب الدولية الرفيعة، لكن كان يقين الكثيرين أن السيرة الذاتية المكتوبة، والتي قدمت ضمن حيثيات التوظيف ربما أعاقته عن تولي وظائف كثيرة دون تلك المنشودة، فقد حفلت بأخطاء مخجلة في اللغة، والتحرير، والصياغة والمعايير المتعارف عليها في كتابة السيرة الذاتية.
حكايات السير الذاتية في عهد الإنقاذ كانت الأكثر إثارة للجدل بسبب حرص الإنقاذيين على منهج (تكييش النظام) بوسائل مختلفة فازدهرت الألقاب الأكاديمية الزائفة، والرتب العسكرية العالية المكذوبة أو الحقيقية، وشهدت البلاد أكبر عدد من الجنرالات برتبة فريق في تاريخها حيث كان الترقي من الرتب الصغيرة يمر بالتعيين في وظيفة في الدرجة الأولى الخاصة (منصب وزاري مثلاً)، ثم يعاد الضابط إلى وحدته العسكرية حيث يحال إلى التقاعد برتبة فريق ليحصل على امتيازات الوظيفة مدى الحياة في أحد أبشع مظاهر الفساد الإداري الذي يعبث بالقوانين دون أن يخالفها. هذا ملف يحتاج إلى معالجة هادئة وصارمة وحاسمة توجه إلى الفعل أكثر من الفاعلين بحيث يستعيد جهاز الدولة عافيته رغم أن علامات الترشيح في الوظائف السياسية في عهد ما بعد الإنقاذ تكشف بشكل مثقل بالخزي أن تعيين الأقل كفاءة والأدنى استحقاقاً هو السائد حتى الآن باستثناء تعيين رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك.
أثيرت حكايات السير الذاتية الزائفة مع (كذبة) تعيين حكومة الكفاءات وهي كذبة أطلقها نظام الرئيس المعزول البشير ضمن حزمة خطط محاولات إنقاذه لكنه سرعان ما تراجع عنها فور التهدئة المؤقتة في حراك الشارع المضاد. حسب بعض النشطاء أن الوظائف السياسية قد غدت مرهونة فقط بالشهادات الأكاديمية، دون النظر إلى العوامل الأخرى في صناعة السياسي ورجل الدولة على النحو الذي كان سائداً في عهد السودنة حيث تم تقسيم الوظائف التنفيذية بين مجموعة من خريجي كلية غردون التذكارية، ثم واصلت الدولة اعتمادها على (جامعة الخرطوم التذكارية) بعد جلاء المستعمر. هكذا امتلأت وسائل الإعلام الجديد بالسير الذاتية الكذوب حيث الألقاب الأكاديمية مفروشة على قارعة الفيسبوك، وحيث التخرج من الجامعات والشهادات لا يحتاج إلى شيء سوى حساب مزيف يكتب أن فلاناً قد تخرج في تلك الكلية في تلك الجامعة، وأنه قد حصل على شهادة من تلك الكلية دون أن تعتني أي سيرة من بين تلك السير بالحقيقة.
اجتهدت على نحو خاص بالحصول على سيرة أكاديمية ومهنية لرئيس الوزراء الدكتور حمدوك وفشلت في ذلك فشلاً كبيراً، وبينما يهتم موظفو الوكالات الأممية والمؤسسات الدولية عادة بنشر سيرهم الذاتية في مواقع عملهم، أو في المواقع المتخصصة لتواصل أصحاب المهن والحرفيين فإن الدكتور حمدوك يبدو زاهداً في كل هذا. ليس للسيد رئيس الوزراء صفحة موثقة على أي من منصات التواصل الاجتماعي، وفيما يبدو متابعاً جيداً لها ومتواصلاً بشكل مكثف بنشطائها فإنه لا يطل بنفسه من خلالها. وبالرغم من سيرة حمدوك المهيبة كدبلوماسي رفيع في الأمم المتحدة وغيرها، ورجل اقتصاد مشهود له بالخبرة إلا أنه لا يوجد في الفضاء العام ما يحسم الجدل حول ما إذا كان قد درس الزراعة أو الاقتصاد، وما إذا كان قد تخصص في السياسات العامة، أو الحوكمة، أو الشؤون الاقتصادية!
تقول سيرة حمدوك المنشورة على موقع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) إنه حاصل على بكالوريوس العلوم من جامعة الخرطوم، والماجستير والدكتوراه في الآداب من مدرسة الدراسات الاقتصادية بجامعة مانشستر ببريطانيا. وفي موقع مفوضية الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا (يونيكا) فإن موقع السير الذاتية الممتلئ بسير أسلافه من السكرتيرين التنفيذيين ونوابهم فإنك لا تعثر على سيرته الذاتية.
توجد في الدوريات الأكاديمية والمواقع المتخصصة مؤلفات متنوعة للدكتور حمدوك ذات صلة بالحكم والانتخابات والديمقراطية والاقتصاد من بينها كتابه بالاشتراك مع آخرين بعنوان (العملية الانتخابية وآفاق تعزيز الديمقراطية) و(أطر سياسات الاقتصاد الكلي من أجل التحول الهيكلي في إفريقيا) وأوراق علمية من بينها (الحكم والسياسات في إفريقيا) وأخرى بعنوان (الحكم والسياسات في إفريقيا: تجارب من التأريخ القريب). لقد عاش السيد رئيس الوزراء لما يزيد عن الثلاثة عقود خارج السودان مما يعني أن أجيالاً من السودانيين لم تسعد بالتعرف عليه عن قرب وسيكون من المفيد جداً أن يقترب من هذه الأجيال بتقديم نفسه إليهم بصورة أكثر تفصيلاً.
قد لا تكون السير الذاتية الأكاديمية هي العامل الوحيد في عناصر اختيار رجال الدولة للمناصب العامة لكنها بالتأكيد قد حجزت موقعها ضمن الشروط المهمة للتعيين مما يشي بدورة جديدة لسطوة الأفندية على المشهد العام بعد تراجع حضورهم خلال حقبة السبعينيات لصالح المغتربين في دول الخليج، ثم في الثمانينيات والعقدين التاليين لصالح رجال القبائل وأمراء الجماعات الدينية سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين حيث رأينا صعود تلك الطبقة في صناعة القرار.
ربما حان الوقت لأن تحدد المؤسسات الحكومية الصيغ المطلوبة للسير الذاتية حسب الوظائف المطروحة في استمارات معدة سلفاً بحيث يكف النشطاء عن حشو سيرهم الذاتية المكتوبة باللغة الإنجليزية بأنشطتهم في المنظمات الخيرية الصغيرة، وفي لجان الأحياء، والتلويح بها كمنجزات دولية تؤهلهم لحكم السودان. على صعيد متناغم ينبغي أن يتم إصلاح الخدمة العامة عبر طرح الوظائف العامة بما فيها القيادية في سوق العمل للتنافس الشريف من داخل الخدمة المدنية وخارجها بحيث تحصل الدولة على الأفضل تعليماً، والأكثر خبرة وقدرة على أداء المهام المرتبطة بالوظيفة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.