د. محمد علي عبد الجابر

الفريق الأول شرطة/ بابكر أحمد الحسين

شارك الخبر

لأن الشيء بالشيء يذكر وأن سلوك الانسان واستجابته للمؤثرات والتحفيزات تأتي في كثير من الحالات لتعبر عن معدن الانسان وخلفيته الثقافية والتربوية والبيئية وإن أراد فعله تنشأ في هذه الحيلة الزاهية ولا تأتيهكذا خبط عشواء، ومن هنا كان تراثنا السوداني حكيماً وهو يعبر عن خسران الرهان على (علوق الشدة) تبقى ارادة الإنسان وقراره القوي الذي يأتي مدهشاً وقوياً ليحافظ على كرامته واعتداده بنفسه لا يقبل التجاوز المذل الذي يأخذ في طريقه الأبرياء ويهدم قوائم الفكرة ومؤسسية العمل والعطاء، هذه المقدمة استدعيتها بمناسبة موقف سعادة الفريق بابكر أحمد الحسين مدير عام الشرطة السابق والذي وضعت أمامه كشوفات إحالة ضباط شرطة للصالح العام فرفض التوقيع لأن الإحالات جاءت من خارج الأطر الإدارية للشرطة وفيها ما فيها من الأبعاد السياسية وتصفية الحسابات من بعض الحاقدين الذين لم تحركهم دوافع وطنية اللهم إلا نفوسهم المريضة والأمارة بالسوء، ولم تهتز ثقته بنفسه ولم يفقد انصياعه لضميره الحي النابض وكان يعرف مآلات موقفه، فغادر المنصب الرفيع المحاط بالكسب المادي و الأدبي ولم يندم لحظة، فما عند الله أكبر وأقيم من كسب الدنيا الزائل، الا أن التاريخ كان قريباً وكانت صفحاته مشرعة فخطف الموقف المحتشد وعياً وفكراً وتقوى وأخلاقاً ومسئولية، وهكذا العظماء دائماً على مر التاريخ، في اللحظة الحاسمة لا ينتصرون لذواتهم بل يصعدون على أكتاف الموقف ليتسع مدى الرؤية وكأني به ثمة هاتف يخاطبه في دواخله ويقول له (يضحكن عليّ بنات الحلنقة كان قبلت بهذه المهزلة) .
المواقف العظيمة والنبيلة أيها القراء الأعزاء جديرة بالإشهار والاحتفاء لما فيها من وفاء للمبادئ والتزام أخلاقي تجاه المحيط الذي نعيش فيه ولما تختزنه من عظة وعبرة يرجى تربية الأجيال عليها والتأسي بها، فحقاً في الليلة الظلماء يفتقد البدر، العظماء هم الذين يصنعون التاريخ ليس بمنطق القوة بل بالتعاطي الايجابي الذي يسند هامة القيم في لحظات العسرة والخوف، العظماء هم الذين يعطون الحياة ألوانها الزاهية الجميلة ويعطونها بعداً قيمياً وإنسانياً لأن وفاءهم دائماً للفكرة وليس للغنيمة التي عطلت جهود وأحلام البشر في كل زمان ومكان، فالعطاء المبذول للعامة دون تميز ومحاباة هو حرفة لا يجيدها إلا العظماء أصحاب السرائر النقية المتدرجين في مسالك الإيثار والرمزية العالية، لانه سمو يتجاوز الأهداف الوضيعة وقيود الزاد العصية، والأعمق من كل ذلك أن العظماء ينبعون من بيئات (الارتواء الوجداني) التي يتماهى فيها الناس على حكايات البطولات المحكية، ولعله من المناسب أن نحكي حكاية قديمة وردت إلينا بالتسامع، قيل إن بطل الشرق عثمان دقنة قد التجأ الى احد أصدقائه في أركويت بعد أن هاجم حامية الإنجليز وقتل قائدها، وأصبح مطلوباً للانجليز الذين خصصوا جائزة كبيرة لمن يدلهم عليه، فخارت إرادة صديق دقن أمام المال وأبلغ عنه وجاء لدقنة في الكهف الذي يختبئ فيه مكسوراً كحال المتخاذلين في كل زمان ومكان، فعرف دقنة ذلك وقال له (أنا عارف انك بعتني … بس ما تكون بعتني رخيص) هذا هو المجتمع الذي أتى منه سعادة الفريق بابكر احمد حسين، فلا غرو أن يأتي عظيماً تسنده السيرة العظيمة التي رويناها عن دقنة بطل الشرق، أما مجتمعات العدم والخواء الفكري والإنساني والوجداني فلا يرجى منها إلا العدم والفقر والمسغبة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.