د. عصام لقمان.. كان شقيقي رجلاً عظيماً..!

د. خالد حسن لقمان

.. ترى هل سأفلح في الكتابة عن (عصمت)؟.. هذه هي المقدمة الأكثر من عشرين التي تفشل في العبور بحديثي لما يحملني حملاً لأكتب.. وَيَا ليتني ما تعلمت من الكتابة شيئا.. لا حرفاً ولا كلمة ولا معنى.. اذاً لكنت اليوم في منأى من هذه الحالة التي تتملكني ويرتعش لها كل جسدي وكأن تياراً كهربائياً يصعقني وأحس بألمه من أخمص قدمي إلى قمة رأسي.. أريد أن يذهب كل هذا بكل ما فيه من ألم وضيق واختناق.. لماذا لا يذهب هذا الكابوس بعيداً عني.. لماذا يلتصق بي كل هذا الالتصاق وتفشل غفوتي ويخيب نومي في إرجاعي إلى لحظات تعانق العيون وتهامس الكلمات وحلاوة الأنس وطلاوة الحديث وعذوبته.. لا اريد أن يحبسني هذا الكابوس.. اريد الانعتاق منه.. اريد (عصمت) بجانبي.. أجالسه في صالون بيتنا الذي نشأنا فيه كلنا معاً وقد شهد ما شهد من الاحداث بأفراحها و أتراحها.. سنوات وسنوات و (عصمت) بجانبنا و أمامنا و خلفنا وفي كل مكان حولنا.. يغيب ليعود ونغيب لنعود بضعة أيام او بضعة شهور دون أن يتغير المشهد ودون أن تطفأ الأنوار.. دوماً يظل المكان مضيئاً وحتماً سيظل مضيئاً حتى وإن غابت الاجساد ذلك أن ما سكنته وما ستبقى فيه إلى الأبد هي ارواحنا جميعاً.. ابى ذلك الرجل العظيم الذي فارقنا منذ اربعة أعوام وامي الحبيبة اطال الله عمرها وأشقائي عصام (عصمت) وعادل وعمر والحبيبة الشقيقة نجوي.. نجوم حياتي وحبات عمري ونبات زهري و لذة مطعمي وعذب شرابي.. سنبقي معاً وانت معنا ايها الحبيب (عصمت).. عملتها يا عصمت و ذهبت اليه قبلنا.. إلى (أبوي) تفوز كما فزت الآن ب (الرقاد بجانبه).. اصبح قبراكما واحداً لا شيء يفصل بينكما.. ما هذا التدبير الإلهي المدهش.. يا سبحان الله يأتي بك القدر من دبي البعيدة لتمكث فقط بضعة ايام ثم تعود ولكنك لا تعود إلى مقر عملك بل تضع رأسك بجوار والدك تنال في برزخك دفئه وانسه ورضاه كما فزت بذلك في ايام دنياك.. كم انت محظوظ ايها الانسان الرائع البديع.. هكذا انت دوماً تفاجئنا بفعلك حيث لا نوتة تقرأ للحنك الشجي ولا قاموس يفسر جميل كلماتك وروعة معناك.. هكذا انت دوماً مهراً أصيلاً جامحاً يشق البيادي بشجاعته وكرمه وعطائه ويتجاوز الحواجز بسماحته وطيبته وحسن خلقه.. آه يا اخي لو كنت اعلم انك ستفعلها هذه المرة لما تركتك تذهب وحدك وأمل بقائنا معاً إلى الأبد يكاد ينسينا سنة المضي والذهاب إلى ملكوت مالك الملوك.. آه يا اخي الحبيب لو تعلم ما فعلته بالأمس الثكالي والنائحات.. صوتهن تهتز له الأرض وأزيز نواحهن ينشق له الفضاء.. ولكن حسبك يا اخي من كل هؤلاء..؟؟.. لقد نعوك بأكثر من ما فعلنا وبكوا عليك بأكثر من ما بكينا.. متى عرفت كل هؤلاء ومتي عرفوك.. امتلأت بهم الساحات وتضاغطت عليهم الطرقات وتراقصت بين ارجلهم الواجفة المرتعدة والحائرة المذهولة رمال وكثبان المقابر.. كان هناك من يتحدث مع أمه او أخته ثم ينفجر باكياً تخنقه العبرات غير مصدق وطرف محادثته بما حدث.. تخرج منه كلمات الذهول والثناء والشهادة لك معاً في مشهد بالصورة والصوت هنا وهناك.. هل مات مولانا حقاً؟.. سؤال تكرر لحظتها الف مرة ومرة.. هنا علمت شقيقي الحبيب انك لم تكن لنا فقط بل كنت لكل هؤلاء أباً رحيماً وأخاً كريماً وصديقاً حميماً ومثلك يا (عصمت) لم يخلق ليبقي الا كما يبقي الورد على الأغصان والثمر على فروع الأشجار ووهج الشهاب ووميضه الخاطف بإكمال مسار قوسه في كبد السماء.. ذهبت ايها الابن البار والشقيق الحبيب والأب الحنون والزوج الكريم والصديق الوفي وتركت هؤلاء كلهم تلهج ألسنتهم بالثناء عليك والاتفاق حولك والشكر لك وما بين الخرطوم والركابية ومورة وعطبرة وبورتسودان واطراف البلاد كلها طولاً وعرضاً تناقل الخبر وتجاوز الحدود إلى الخليج وكافة أنحاء المعمورة حتى بلاد الفرنجة وصلها خبر رحيلك فبكتك كل هذه المسافات بجغرافيتها وتاريخ عمرها معك.. والغريب اخي أن كبير هؤلاء جميعهم كان يبكيك بمثل ما يفعل صغيرهم فهم في حبك سواء لانك كنت لهم جميعاً متواضعاً سهلاً لا كبر عرف طريقه اليك يوماً ولا خيلاء تلبست شخصك النبيل.. كم كنت عبقرياً في ذلك.. عرفت معني الحياة ووصلت لنبعه ونهلت من صفو شرابه فسكنتك السعادة وشملك الرضى وهو ما رأيته فيك ساعة تسجيتك الأخيرة على الفراش.. رأيتك و بأم عيني باسماً ابتسامة رضا.. نعم والله العظيم الجليل رأيتك باسماً ابتسامة وضاءة لا شك فيها كما رأيتك راضياً رضي لا ريبة فيه.. وحق عليك أن تبتسم للموت وترضى بالقدر ايها العالم الفقيه الذي انتج منتوجاً فريداً وكثيفاً من مؤلفات القانون وعلومه رفدت بها مكتبة البلاد القانونية والعلمية وأنت الذي شهدت له ساحات العدل بمحاكمها ودهاليزها ودواوينها داخل البلاد وخارجها صولات وجولات حيث شرفت بلادك بخبراتك وعلمك ومهاراتك الفذة فنلت ما نلت من التكريم من داخل وطنك وخارجه وفي دولة الامارات العربية ومحاكم دبي التي كرمتك وصحبك (من الزملاء المكلومين الآن بفقدك الجلل) عاماً بعد عام على أعلى مستويات الدولة وقمتها.. رحمك الله أبا (اسراء) و (آن) وما ادراك ما (آن) وأمها الرؤوم (مهيرة) الصابرة المحتسبة.. (آن) الذكاء الموروث والفطرة السليمة و (آن) مستقبل وجودك معنا وامتداد حياتك فينا سنبقي لها وتبقى لنا وردة تينع وتتفتح بفوحها وعطرها.. رحمك الله رحمة واسعة و أسعدك بدعاء والدتك الحبيبة التي ما فتيئت تناجيك و تدعو لك ما اصبح عليها الزمان وما أمسي.. اخاف أن مضيت أكثر أخي تستعصي على خاتمتي بمثل ما صعبت على مقدمتي.. فقط دعني اسأل ربي أن يبلغك رسالتي هذه.. لا اطلب المستحيل في هذا فلا مستحيل عند ربي الذي كلم سيدنا موسى عليه السلام واعطاه ما اعطاه وأكرم نبيه سليمان وأعطاه ما أعطاه وملكه ما ملكه فلماذا لا أسأله أن يبلغك كلماتي هذه اليك تحملها حملاً ما أودعه جل وعلا في نفوسنا من عظمة لصلة الرحم المشتقة أصلاً وجذراً ومعني من اسمه الرحمن الرحيم؟.. اني أفعل ذلك الآن شقيقي الحبيب وانتظر لطف ربي ومشيئته لتسمع كلماتي هذه على قصورها دون قامتك العالية المهيبة انه هو القادر على كل شيء تقدست أسماؤه وعظم شأنه وسأكون في انتظار طلتك على رؤية صادقة آراك ترفل فيها ووالدنا الحبيب فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْكما بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ.. والي هذه الساعة في سحر الصباح وانبلاج شمسه لن اقول لك أبداً وداعاً، بل إلى اللقاء يا حبيب القلب وصنو النفس في زهو الزمان الأبدي السرمدي الخالد.

شارك الخبر

Comments are closed.