هل قطعت صفقة إدارة بايدن بشأن تقراي الطريق على الخرطوم والقاهرة؟! السد.. ثم ماذا بعد؟ فات أوان المفاوضات الفنية، حان وقت الجيواستراتيجية (2-2)

نصف رأي

بقلم: خالد التيجاني النور
(1)
في الواقع هذه ليست المرة الأولى التي يتعامل فيها الاتحاد الإفريقي، سواء في ظل قيادة جنوب إفريقيا العام الماضي برئاسة جيكوب زوما، أو في قيادة جمهورية الكنغو الديمقراطية حالياً برئاسة فليكس شيكسيدي، فقد مارست إثيوبيا خرق قواعد التفاوض في يوليو العام الماضي بالقيام بالملء الأول على الرغم من تعهدها بعدم القيام بخطوة أحادية أثناء التفاوض، ومر ذلك دون أن تتخذ رئاسة الاتحاد الإفريقي أي موقف من أي نوع لتنبيه أديس أبابا على هذا السلوك العدواني، دعك من أن تقدم على إدانة الخطوة. وهكذا رسمت إثيوبيا قواعد اللعبة من طرف واحد رغم أنف الجميع، وعادت لتكرره أيضاً هذا العام بالإقدام على الملء الثاني غير عابئة بكل التصريحات التي تحض الأطراف على عدم اتخاذ أي إجراء أحادي، سواء من الولايات المتحدة أو من الأمين العام للأمم المتحدة، أما الوسيط الإفريقي فبقي صامتا كأن الأمر لا يعنيه، وحق لإثيوبيا أن تحتفل بإحرازها نصراً دبلوماسياً لا يستهان به، وقد خرجت الخرطوم والقاهرة خاليتي الوفاض من اجتماع مجلس الأمن الدولي الذي لم يقم أكثر من دعم الموقف الإثيوبي المتمسك بإبقاء حصرية التفاوض في الاتحاد الإفريقي الذي يتضح كل يوم أنه أصبح ألعوبة في يدها.

(2)
لا شك أن السودان ومصر أسرفا في التعويل على المجتمع الدولي، وهو ما تؤكده تصريحات وزير الخارجية المصري تعليقاً على مردود مداولات مجلس الأمن واعتباره أن المصالح هي التي حكمت مواقف الدول، وهو أمر بديهي بالطبع، وكانت خيبة الأمل السودانية المصرية أكثر مضاضة جراء الموقف الأمريكي الذي خذل توقعاتهما، فعلى الرغم من إدارة الرئيس بايدن أظهرت اهتماماً بتعيين الدبلوماسي المخضرم السفير جيفري فيلتمان مبعوثاً خاصاً للقرن الإفريقي، فإن زيارته اليتيمة للمنطقة، المفترض أنها ملتهبة وعلى شفا مخاطر اندلاع حوب مياه، لم تسفر عن شيء ذي جدوى في شأن قضية السد، وحتى اقتراحها باتفاق جزئي مرحلي حول الملء الثاني ضربت به إثيوبيا عرض الحائط، على الرغم من قبول السودان به مشروطاً، ومن المؤكد أن تجاهل أديس أبابا لم يأت من فراغ، ولعلها أبرمت صفقة خفية مع إدارة بايدن التي أظهرت اهتماماً كبيراً بقضية الحرب في إقليم تقراي وتبعاتها، لا سيما في ظل النفوذ القوي الذي يتمتع به العديد من مناصري التقراي في الإدارة الأمريكية التي مارست ضغوطاً كثيفة على رئيس الوزراء آبي أحمد بهذا الشأن، ويشير سياق الأحداث اللاحقة إلى أن انسحاب الجيش الإثيوبي الفدرالي من إقليم تقراي، واستعادة الجبهة الشعبي لتحرير تقراي السيطرة عليه، يأتي ضمن سيناريو توازن به واشنطن الضغط على حكومة أبي أحمد للخروج من الإقليم، وتعويضها عن الآثار السياسية المترتبة عليه بتخفيف الضغط عليها في مسألة سد النهضة.
(3)
لا شك أن المجتمع الدولي وضع السودان ومصر أمام موقف لا يحسدان عليه، ولم يعد ممكناً أمامهما التظاهر بأن طلب دعم المجتمع الدولي الدبلوماسي ستكون له أية جدوى في تغيير قواعد اللعبة الحالية التي ضمنت لإثيوبيا على الأقل في ظل المعطيات الراهنة فرض هيمنتها وفق الفرضيات التي بنت عليها تكتيكاتها التفاوضية واثبتت نجاحها حتى الآن، وفي ظل تقاعس المجتمع الدولي، الذي يتجاهل أن حماية السلم والأمن الدوليين يتطلبان دوراً وقائياً، وفي ظل تواطؤ الاتحاد الإفريقي المعوَل عليه بلا دليل، لا سيما وقد اضطر البلدان إلى أضيق الطريق أمام خيارات محدودة وحساسة ومعقدة للغاية.
(4)
من الواضح أن ثمة خطأ استراتيجي لازم استرتيجية التفاوض من قبل كلا من الخرطوم والقاهرة، اللتين تجاهلتا أو أغفلتا طبيعة الصراع الحقيقية حول السد، وأصرتا على التعامل معه باعتباره مسألة فنية وقانونية محكومة باعتبارات ومشاغل تقنية حول الملء والتشغيل، في حين كانت أديس أبابا منذ البداية تعتبر مسألة السد قضية جيواستراتيجية بامتياز، ولم تتردد مطلقاً في الإفصاح عن أن الصراع في حوض النيل الشرقي يتعلق في جوهره بمعادلة في حساباتها تعمل على تغيير معطيات الجغرافية السياسية في المنطقة، وبالتالي الاستفادة من السد كسلاح سياسي بغرض تعديل توازناتها السائدة، وهدا ليس تحليلاً بل ما صرح به وزير الخارجية الإثيوبي السابق أندرغاتشيو بوضوح وبدون مواربة في أعقاب إعلان إديس أبابا الملء الأول العام الماضي دون أي اعتبار للتفاوض الذي كان جارياً بأن هذه الخطوة تغير من الجغرافيا السياسية في المنطقة، والمعنى واضح أنه لم يعد بوسع مصر ولا السودان الرهان على محددّات للأمن القومي أصبحت خارج نطاق سيطرتهما بتوظيفة إثيوبيا السد لصالح نظريتها للأمن القومي بفرض هيمنتها المائية على البلدين.
ولذلك فإن استمرار السودان ومصر في التفاوض وفق اعتبارات فنية وقانونية لن تجنيا منه إلا المزيد من الخسائر الفادحة بالخصم من رصيد أمنهما القومي، لم يعد من سبيل إلا التفاوض على أساس اعتبارات جيوسياسية تعيد ضبط التوازنات الراهنة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.