المتاريس.. تزوير التاريخ والصورة

أجندة
عبد الحميد عوض

(1)
نظام الحركة الإسلامية في السودان، طوال ثلاثين عاماً لم يسمح بمظاهرة سلمية واحدة مناهضة له، كما لم يوافق على أي حراك مطلبي في الشارع العام، وقابل الخروج عليه، بالغاز المسيل للدموع، والعصي، والرصاص المطاطي والحي، والاعتقال والتعذيب، والمحاكمات الجائرة والظالمة، مضافاً إليها، تشويه سمعة المتظاهرين، ورميهم بالتخريب، والعمالة، وشذوذ الآفاق، وأحياناً الشذوذ الجنسي والعهر، كما جاء في إحدى الصحف المحسوبة على الحركة الإسلامية، والشواهد التاريخية فيما نقول حاضرة وموثقة، ولا شخص يغالطها، ولو ربيع عبد العاطي.
(2)
باشتعال ثورة ديسمبر المجيدة، في 19 ديسمبر 2019، أدرك منظموها، خطر عسس الشرطة وكوادر جهاز الأمن الرسمي والشعبي، على أرواح المشاركين فيها، فوضعوا التكتيكات المناسبة لسلامتهم، بإغلاق الطرق المؤدية للمواكب والتظاهرات، بوضع الكتل الخرسانية والحجارة، وحرق الإطارات، لتعيق وصول العربات العسكرية، بالتالي، تقليل الخسائر في الأرواح والإصابات، فضلاً عن ضمان نجاح المواكب لحين إسماع صوتها وتوصيل رسالتها، وبعد ذلك تزول المتاريس في بقية اليوم بصورة تلقائية، وتعود الحياة لطبيعتها.
خلاصة القول هنا، إن المتاريس لم تكن غاية في حد ذاتها، بل مجرد حماية للأنفس من البطش الحتمي.
(3)
أكتب ذلك، كشاهد عيان على غالب المواكب التي خرجت في الخرطوم، بتغطيتي الصحفية الميدانية للأحداث، ومعي كثير من الزملاء وغيرهم، شهدوا على سلمية الثورة وحرصها على عدم المساس بالأبرياء، كذلك نشهد أن الثوار لم يغلقوا مرفقاً إستراتيجياً، أو أي مؤسسة، وتجنبوا التخريب، وبمرات عديدة، سارعوا للذود عن مواقع حكومية والحيلولة دون الاعتداء عليها، بما فيها مراكز للشرطة، لتلافي ما حدث في الولايات مع بداية الثورة.
(4)
بدخول الثوار لمحيط القيادة العامة، في السادس من أبريل، اضطروا لإغلاق الطرق المؤدية إليه، وأغلق وجودهم في المكان خط السكة الحديد العابر لمحيط القيادة، كما وضعوا متاريس في مداخله، لحماية المعتصمين، خصوصاً مع زيادة معدل محاولات الهجوم لفض الاعتصام، مما أدى إلى استشهاد معتصمين، قبل حادثة الغدر الكبرى في الثالث من يونيو الاسود.
وأذكر تماماً، حينما بدأ المجلس العسكري الحديث عن تأثير سلبي لإغلاق خط السكة حديد، على تمويل الولايات بالوقود والمؤن الغذائية، جاءت الاستجابة السريعة، بالسماح بمرور القطارات، بشرط أن تقدم هيئة السكة حديد، جدولاً زمنياً بالرحلات اليومية، حتى يُفتح لها الطريق.
(5)
بعد فض الاعتصام، واستشهاد العشرات أمام بوابات القيادة العامة، وعلى مرمى حجر من جنرالات “حدث ما حدث” عاد الثوار لتتريس الشوارع في الأحياء، مرة أخرى لأيام معدودة، لأن قوات الدعم السريع واصلت مطاردتهم فيها ليل نهار، ونثبت تلك الحقائق للتاريخ، لكيلا تتعرض للتزوير والتشويه من خفافيش الظلام، المتخصصة في تشويه الثورة ووسائلها وأدواتها، وتحاول الآن الربط والمقارنة بين متاريس الثورة، ومتاريس المجلس الأعلى لنظارات البجا، بقيادة سيد محمد الأمين ترك، وهي مقارنة عدمية ولا شيء يجمع بينهما.
لماذا؟
أولاً، في ثورة ديسمبر، كان النظام البائد يمنع منعاً باتاً التظاهرات والمواكب والوقفات الاحتجاجية السلمية، ويقيدها بإجراءات مستحيلة، أما الآن فأمام مجموعة ترك، حق تنظيم التظاهرات والمواكب والاعتصامات، تحت بند الحرية، أحد أضلاع مثلث شعارات الثورة، وقد فعلوا ذلك من قبل في بورتسودان وغيرها، وسجلوا بها أهدافاً في مرمى خصومهم، كمنعهم صالح عمار، من منصب والي كسلا.
ثانياً، لم يتعرض أحد في تظاهرات واحتجاجات مجموعة ترك، في البحر الأحمر، طوال الأشهر الماضية، للاعتقال والمحاكمة، ولم يُفرقوا بالغاز المسيل للدموع، ولم يطلق تجاههم الرصاص، بل وجدت احتجاجاتهم الحالية والسابقة حماية من المكون العسكري، كما ذكر سيد ترك بعضمة لسانه في تصريحاته الأخيرة، أما الحراك الثوري فقد قوبل بكل تلك الأدوات، والنتيجة أكثر من 90 شهيداً ومئات الجرحى والمعتقلين، قبل 6 أبريل.
ثالثاً، بمقدور ثوار ديسمبر قبل عامين، إغلاق أي مؤسسة حيوية في الخرطوم، مثل المطارات، أو الوزارات أوالبنوك، أوالطرق القومية، لكنهم احتفظوا بذلك تقديراً للآثار التي تصيب المواطن البسيط، أما مجموعة ترك ومن تبعها من الفلول، فقد أغلقت الموانئ البحرية، ومطار بورتسودان، والطريق القومي لخنق البلاد والعباد، دون أي اعتبارات إنسانية، ولو أخذنا زاويا أخرى للمقارنة لفندت نفسها بنفسها.
(6)
ظل سيد محمد الأمين ترك، يظهر نفسه حريصاً على الثورة، وشعاراتها في الحرية والسلام والعدالة، لكنه سقط في الاختبار، حينما هدد أمس الأول، بمواجهة أي تظاهرات سلمية مناوئة لحراكه القبلي، من مبدأ أن ” الأرض أرضنا” وهنا يلغي ترك الآخر، ويمنع عنه حقه في التعبير، على أساس الهوية القبلية، وليس الهوية السودانية، ما يفضح العقلية التسلطية عند السيد ترك، الموروثة من نظامه البائد…
نواصل غداً استعراض مواقف سيد محمد الأمين ترك من مجزرة البجا 2005، ومن جملة قضايا شرق السودان حينما كان في السلطة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.