لمحة من حضارة حلفا

د. محمد علي عبد الجابر

شارك الخبر

بمناسبة نداءات الثوار وهتافاتهم التي تملأ الفضاء العام في السودان تحضرني حكاية من حلفا كانت في خمسينات القرن الماضي بطلها من جهة عمدة منطقة (دبيرة) الذي تقدمت به السن فبدأ يعد العدة لتوريث العمودية لابنه إلا أن الطرف الثاني المتمثل في جماهير وأهالي دبيرة رفضت عملية توريث العمودية وأصرت أن يأتي العمدة الجديد بالانتخاب الحر وهو تفكير مبكر وسابق لعصره في ذلك الزمان، وتحت إصرار الجماهير ورغبتها العارمة والتي اختارت العمدة داؤود عبدالرحمن مرشحاً لها، لم تجد الحكومة ووزير الداخلية في ذلك الوقت إلا الانصياع لرغبة الجماهير في دبيرة فجرت الانتخابات لاختيار عمدة دبيرة والتي فاز فيها مرشح الأهالي على ابن العمدة وكانت التجربة جديرة بأن توثق.
السعي (لمدنية) الحياة والخطاب هنا موجه للثوار والقادة في الحرية والتغيير وكل المتطلعين للمدنية أن السعي مبارك ومنطقي، فمن يقرأ تاريخ بدايات القوانين التي جاءت أصلاً لتنظيم علاقات الناس وحفظ الحقوق يتدرج من قانون الغاب الذي كان الحكم فيه للقوة لذلك قالوا قديماً ان الأسد (ملك الغابة) ثم تطورت الحياة رويداً رويداً واتسعت دائرة الوعي والإحساس بالحقوق لتكون خاتمة المطاف بهذا التنظيم القانوني الذي تفرع بين النيابات والمحاكم وبقية مؤسسات الدولة العدلية وتمددت السلطة العامة من شرطة وغيرها، ولا يختلف الناس أن مسيرة الحياة وتطورها هي أصلاً مسيرة تحررية جاءت لتحرير الإنسان من العبودية وإفساح مساحات الاختيار بحرية أمامه دون ضغوط وباحترام كامل لحقوق الإنسان ورغباته، إلا أن كل ذلك يتم وفق آليات أبدعها الفكر الإنساني من ديمقراطية وشفافية وسيادة قانون والانتظام في أحزاب وكيانات سياسية تتوزع فيها أمزجة الناس وانتماءاتهم وحصيلة نضالاتهم، والمؤكد أن هذه المسيرة تواجه تحديات وعقبات فمثل ما كان الإقطاع ورجال الدين عقبة أمام انطلاق الفكر الإنساني بادعاء التميز وأن ثمة وحيا يأتيهم من السماء وأنهم المعنيون بتوزيع صكوك الغفران، نجد حالياً شبكات من البشر جمعتهم المصالح الشخصية المادية تعمل تحت حكومات يضرها هذا المسعى نحو المدنية والشفافية والحرية والديمقراطية وبالتالي فهي تقف عقبة أمام هذا التطور ولا يبقى أمام الشرفاء والوطنيين إلا النضال لانتزاع الحقوق بتقديم التضحيات الكبيرة والجسيمة، وإن كان لتظاهراتكم ومواكبكم والخطاب ما زال للثوار، فإنها جعلت الانفتاح على المدنية الكاملة مزاجاً عاماً لن يقبل الشعب السوداني بغيرها .

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.