حول التنقيب في جزيرة صاي

محمد جلال أحمد هاشم

بمجرد سماعي صباح اليوم بوصول وفد حكومي رسمي إلى جوبا، ومن ضمنها زميل الدراسة بكلية التربية، جامعة الخرطوم، حسين أمين (الوكيل المكلف لوزارة الخارجية)، طلب لقاء به عبر سفيرنا بجوبا الأستاذ جمال مالك، وبالفعل قام الأخير بتدبير اللقاء الذي وجد أشد الترحيب من قبل زميل الدراسة حسين الأمين، وكم كانت مفاجأتي عندما وجدت أن الاجتماع قد ضم كل اعضاء الوفد، بما في ذلك عضو مجلس السيادة نائب القائد العام الفريق شمس الدين كباشي ووزير الدفاع اللواء يس إبراهيم وآخرين ضمن حاشية الوفد.
***
بعد التحايا والمجاملات، تطرقت لموضوع ترخيص التنقيب عن الذهب بجزيرة صاي، وقد أهديتهم النسخة الوحيدة التي امتلكها من كتابي *جزيرة صاي.. قصة الحضارة*، شارحاً لهم خطورة السماح لهم بالتنقيب عن الذهب فيها، واصفاً ذلك بأنها جريمة في حق الوطن وفي حق التاريخ وفي حق البشرية جمعاء.
***
في هذا حكيت لهم القصة التالية:
عندما قرر الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن مع جنرالاته إعلان الحرب من الولايات الشمالية (الاتحادية) على الولايات الجنوبية (الكونفيدرالية)، وخرجوا جميعاً من مكتب الرئيس لإعلان الحرب، كان هناك رجل بسيط، رث الثياب، يقف داخل مكتب الاستقبال لمكتب الرئيس لينكولن. قام هذا الرجل بإيقاف الرئيس لينكولن وسط استياء جميع مرافقي الرئيس وقال له: “سيدي الرئيس، لقد رابطتُ بمكتبك هذا لأيام دون أن يسمحوا لي بمقابلتك”! برغم استعجال مساعدي الرئيس وجنرالات الجيش للرئيس لينكولن”، إلا أن الأخير أولى ذلك الرجل البسيط كل انتباهه وسأله: “من أنت”؟ فقال له: “أنا حارس غابة كذا وكذا بولاية كذا ذات الأشجار المعمرة التي يتجاوز عمرها الألف وألفين عام”! فسأله الرئيس: “وما هي مشكلتك؟” فرد الرجل قائلاً: “المشكلة يا سيدي الرئيس أن حاكم الولاية قد أعطى شركات الأخشاب ترخيصًا بقطع هذه الأشجار لبناء المنازل!” فاستغرب لينكولن وقال له: “وما هي المشكلة في هذا؟” فرد عليه ذلك الرجل قليل التعليم، رث الثياب قائلاً: “يا سيدي الرئيس هذه الأشجار ظلت واقفة في مكانها هذا لآلاف السنين! لا أنت زرعتها، ولا أنا زرعتها، ولا أجداد أجدادنا منذ أن أتوا إلى أمريكا قد زرعوها! ولكنا جميعاً جلسنا تحت ظلالها. أوأيس من حقنا على الأجيال القادمة أن نحافظ عليها؟”
***
هنا بُهت الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن وبرغم احتجاجات جنرالاته واستعجال مساعديه، أخذ بسد الرجل ودخل به إلى مكتبه وأصدر فرمانا رئاسيا بجعل تلك الغابة محمية بأمر القانون. بل وأمر بتعيين ذلك الحارس حارسا رسميا بصلاحيات اتحادية. ثم بعد هذا خرج إلى جنرالاته ومساعديه المتبرعين وقال لهم: “هذه الحرب التي نحن بصدد إعلانها، مهما استمرت، فلن تستمر لثلاثة آلاف عام. سوف تنتهي الحرب، لكن ستبقى هذه الغابة!”
***
وبالفعل، استمرت الحرب لأربعة أعوام فقط (1861م – 1865م)، ولا تزال الغابة (ومعها غابات أخريات مماثلة) باقية إلى اليوم!
***
إن الحرب التي لا يديرها العظماء، قد تظل آثارُها المدمّرة وتستمر لآلاف السنين. فالخيارُ أمامكم: إما أن تكونوا جزءاً لا يتجزأ من دمار التاريخ وخرابه، أو أن تكونوا من العظماء الذين يديرون الحرب ليحصروا خرابها في أقل نطاق ليواصلوا مسيرة الحضارة والسلام بمجرد انقضاء أجل الحرب.
***
مع إبداء جميع أعضاء الوفد لعميق تفهمهم، أبدى الفريق أول شمس الدين كباشي اهتماماً خاصاً بهذا الأمر، واحداً باتخاذ ما يلزم من إجراء.
***
في ختام هذا التقرير لجميع المهتمين بالآثار وتاريخ الحضارة، ثم لأهلي بجزيرة صاي، أختم بهذه الأبيات من قصيدة لي كتبتها عن مسقط رأسي، جزيرة صاي، ذلك احتفالاً بالعيد الفضي لاتحاد طلاب صيصاب (صاي) عام 1980م:
في جبين الصّخر ماضينا وفي ظلّ النّخيلْ
واسمُنا ينطِق بالتّاريخ والمجد الأثيل
كم هزمنا الدّهرَ والأجيالَ بالأصل الأصيل
وحّدتنا لغةٌ يسمو بها الشّعبُ النّبيل
وهنا فوق ضفاف النّيل قد غنّى الخليل
وشدا للقوم ألحاناً لعزٍّ لا يدول
برهةً ثمّ افترقنا، إذ طغى النّهرُ الجليل
وانتهكنا حرمةَ التّاريخ في الوادي الظّليل
وذرفنا الدّمعَ والآهاتِ في يوم الرّحيل
وطفقنا نذرع الآفاق في العهد الذّليل
وفقدنا كلَّ شيءٍ غيرَ حبٍّ لا يميل
وذهبنا دون تعويضٍ يواسي أو بديل
غير أنّا مثلما كنّا سنبقى كالشّهابْ

جوبا – 4 مايو 2024م

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.