“مثل ترنيمة”.. إيقاع يتدفق شلالاً هادراً

على الورق…إبراهيم الصافي

شارك الخبر

“مثل ترنيمة” رواية عن حياة دستويفسكي بقلم بيرومبادافام شري دهاران، وهو روائي من ولاية كيرلا الهندية، اختار لروايته اسماً موسيقياً سهلاً سلساً ذي جرس لطيف وإيقاع شفيف، بينما ترك اسمه معقداً مثل دغل متشابكٍ في بقعة استوائية، أو ربما رقية عقرب.. روايته ليست ترنيمة، وإنما أنشودة أو أغنية تتدفق الموسيقى من جنباتها ويخرج العطر من أردانها.

علم النفس حاضر في هذه الرواية بكثافة، الخيال والعقلية الملهمة، والإحساس المرهف، والقريحة المنسابة مثل لحن عذب، فالروائي (دهاران) يصور صراع النفس الذي أقض مضجع دوستويفسكي، ودفعه إلى كؤوس الخمر لتسلية نفسه من وطأة الديون التي تثقل كاهله، ولإشباع رغبته في “المقامرة” أملاً في كسب أموال لإنفاقها كيفما اتفق.. ويرى أن دوستويفسكي نتاج بيئة يتهافت فيها الأثرياء على موائد (القمار) بينما يحصد الجوع القابعون على الهامش.

انبنت حبكة الرواية بكاملها على حياة دوستويفسكي التي كانت مشحونة بمفارقات عجيبة فرحًا وغضبًا، وأزمات واختلالات نفسية كنتاج للنبوغ والكبرياء والتداعي الوجداني والخيال الدافق، واللأفكار والرؤى التي تنساب كشلال لا يستطيع صاحبها السيطرة عليها. استطاع الكاتب أن يُجسِّد شخصية الروائي الروسي الشهير بصورة رائعة وكأنه ابن حيِّه ومدينته، بل كأنما يقاسمه ذات الغرفة وذات المخدع، حوَّلهُ من مجرد إرث أدبي وثقافي وفنِّي عالمي إلى كائن حيٍّ تعتمل في صدره أحاسيس متداخلة ومتفاعلة، دواخله مشحونة بالضياع والغبن والاكتئاب، وبالأمل الأرمد والإيمان الصاعد هبوطًا، يعيش أحيانًا لحظات إيمانية يقظة تكتنفها معطيات عقلية تحيلها إلى أسئلة جريئة ومتشككة تحطُّها إلى القاع، وترتفع به طورًا إلى الآفاق، ويغيب أحيانًا عن الوعي بسبب نوبات الصرع التي تدهمه على حين غرَّة، فينفصل عن الحياة، وكأنه يستدعيها بمحض إرادته وكأنها غطاء يسحبه ليتدثر به من لفح واقعه المرير.

نجح هذا الروائي ـ عصيُّ الاسم ـ في إعادة بعث دوستويفسكي وتصوير انفعالاته وتقلباته صعودًا وهبوطًا، وأنطق مشاعره المتدفقة كشلال هادر في حالتي الإيجاب والسلب، وكشف للقارئ عبقرية ذلك الروائي الروسي الفذ، وقريحته المُلهِمة، وقدرته على التأليف الروائي في لحظات تجلٍّ وطهارة نفس سرعان ما تنقلب رأسًا على عقب، فيتوقف الإلهام، وينقطع سيل الإبداع، ويخبو الوميض ويخرس اللسان، وذلك حينما تتداعى أمام ناظريه الكيفية التي يتعامل بها بعض الناس في مجتمعه المحيط، وحينما ينتابه إحساس بالاختناق من معاملات وأساليب وأنماط حياة العامة، أو حين يستدعي تجاربه في الحب والعشق، وهو يُعبِّر عن ذلك بقوله: “ستبرز المتاعب أحيانًا على غير ما نتوقع، فهي كاللعنة… أنا دائمًا في ورطة كبيرة، حتى حين أحاول حل نفسي؛ فإن العقد تتشابك كلها من حولي، لا أحد يفهم السبب.. حتى أنا لا أفهم متاعبي، مصيري مثل جملة لا يفهم معناها حتى كاتبها”، وحين تستعصي عليه الكتابة يرى أن العقلَ سماءٌ داكنة مفعمة بسحائب أمطار، مطر معلق فوق الرؤوس، محمَّل بذكريات طوفان، لا يدري من أي سحابة ستهمي أول قطرٍ لها، والكتابة إلهامُ لحظةٍ واحدةٍ مباركة.

وبمرور الأيام تدخل حياته (آنا) كاتبة اختزال يملي عليها روايته الفذة (المقامر)، وترى في وجهه تعبيرًا حزينًا يصعب تفسيره، تعامل معها في البداية بفظاظة لم تتصور معها أن كاتبًا موهوبًا مثله قد يسبب ألماً لآخر بذات فظاظته معها. ولأنها تدرك عظمته كروائي؛ فقد احتملت نوبات جنوحه وفورات غضبه لإيمانها بطهارة دواخله. ثم استجمع دوستويفسكي هدوءه بعدما قرأ علامات الذكاء على سيماها الجميلة الفاتنة وطلب منها أن تأخذه بالشفقة وتغفر أخطاءه بينما كان يواصل إملاء روايته الفذة (المقامر) عليها، ثم يقع في حبها مستعيضًا به عن حب زوجته الراحلة ماري، ويتزوجها في النهاية ليكون هذا الزواج منقذًا له من ارتهان رواياته الجديدة لناشر فاسد مُبتز.

يرى بعض النقاد أن المؤلف تقمص في (مثل ترنيمة) شخصية دوستويفسكي ليكتب سيرته التي استوحاها من إدمانه لقراءة رواياته، وتأثره بنهجه ونسجه في الكتابة، فهو هنا كأنه هو نفسه بشحمه ولحمه ودمه، استدعاه من مرقده الأبدى ليشاركه تأليف هذه الرواية، وليُوثِّق له في أدبيات التاريخ الروائي الإنساني.

تقع الرواية في 236 صفحة من الحجم المتوسط ونقلها إلى العربية محمد عيد إبراهيم.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.