رواية نانجور حكايةُ أبنوسةٍ سودانيّة

بقلم موسى الزعيم \ برلين ـــــــــ سوريا

تقديم حامد فضل الله \ برلين

شارك الخبر

يواصل الصديق أمير حمد ناصر إنتاجه الاِبداعي في مجال القصة القصيرة والشعر، بصدور روايته الأولى، الذي بشرنا بها منذ سنوات، وأتمني الا تكون اليتيمة. يتميز أمير بسرده الشيق ولغته المرهفة الشاعرية، ممزوجة بمسحة صوفية. ويتناول في روايته قضايا العنصرية ومأساة اطفال حرب جنوب السودان وعلاقة الأنسان بالمكان وعلاقة الشرق بالغرب، وعلاقة الرجل بالمرأة أيضا. سوف أعود لاحقا، بتقديم عرض نقدي للرواية. ويسعدنا أن نقدم الآن البحث النقدي الرصين للكاتب والروائي والقاص والناقد الأدبي موسى الزعيم من سوريا، المقيم حاليا في برلين.

عن دار الدليل للطباعة والنشر صدرت حديثا رواية نانجور للأديب والكاتب السوداني أمير حمد، وهي العمل الروائي الأوّل له بعد عدة مجموعات قصصية وأعمال نقدية تختص بالبيئة الروائية عند الطيب صالح.

أمير حمد الذي يعيش في ألمانيا منذ أكثر من 30 عاماً، يحمل السودان في خاطره، ينهل من بيئته موضوعات قصصه يمزجها بنكهة أوربية، له ذاكرة تحفظ الجميل والمؤلم عن وطن يتمزّق يوماً بعد يوم بحراب أبنائه وبالدعم الخارجي، كما له عين خبيرة ناقدة للواقع في ألمانيا .

في متن الرواية:

في مئتي صفحة تقريباً الرواية مركبّة على عددٍ الأفكار الأساسية منها ( تقسيم السودان وقضية تجنيد الأطفال وعمل منظمات الإغاثة الألمانية في السودان ودور ألمانيا سلباً وايجاباً في ذلك، بالإضافة إلى واقع المرأة في ألمانيا ) بالإضافة إلى قضايا تبدو للوهلة الأولى أنها جانبية، لكنها كانت أساسية في المتن، ساهمت في تحريك دفّة الأحداث من خلال رموز وإحالات كثيرة ” فالمحطّة ، والقطار ، والغُراب ، وإسماعيل سائق القطار وناظر المحطّة وشيخ النحلان الصوفي وغيرها .

تسير الرواية عبر عدّة محاور متداخلة في متهنا في تشابكات حكائية ومن خلال عدد من الشخصيات تتناوب على سرد الأحداث، كلّ يمثّل مرجعية الثقافية والاجتماعية والقبلية، له صوته الخاص الذي يتقاطع مع الأصوات الأخرى في مكانين متباعدين جغرافياً (ألمانيا- السودان) هذه الشخصيات يبقى هاجسها الأول التغيير الحاصل في السودان، وانعكاس ذلك على البيئة الاجتماعية واصطدام مصائر وأحلام هذه الشخصيات بالسلطة القبيلة ونفوذها وتابوهاتها والتي كانت فيما يبدو منذ السابق تمارس دورها في تمزيق جسد السودان، كل ذلك جاء عبر قصة حبّ سودانية بين الممرضة الجنوبية نانجور والجندي الشمالي محمد.” إنّه حبّ بحقّ، أحسسته في كياني، أنا جنوبيّة معارضة للنظام وهو جندي بكتيبة الحكومة وشمالي لا ينتمي إلى منظومة عرقيّ ودينّي” هكذا تقول نانجور لسيلفيا.

يثمر هذا الحبّ عن علاقة زواج معقدّة، ، فأنّى للحرب أن ترحم قلبين على جبهات النار، لكن ما تحمله الحرب من أسلحة ودم، ليس أقسى من تعنّت القبيلة وموقفها من هذا الزواج، فلها جدرانها التي تجاوزت صلابة الفولاذ وقسوة الثأر.

تطرّقت الرواية إلى عدد من الهواجس التي تشغل بال الراوي والذي أراده الكاتب أن يكون حامل رسالة وهي “مسودة رواية”، فهو مجهول الاسم وقد توارى السارد خلف شخصية عرفناها خلال لفظ” الرجل ” الذي كان يصحح ويحاور جليسه الألماني ريكاردو ويدفع بالأحداث إلى الأمام ومن ثم الخلف يعيدها إلى أسبابها ، مما طرحه في تلك الجلسة علاقة ألمانيا بتقسيم السودان ودور منظمات الإغاثة فيها من خلا ل ريكاردو وسيلفيا التي عملت أيضا في إفريقيا ولها تجربتها في العمل الإغاثي ورؤيتها في هجرة الأفارقة إلى أوربا.

في المسودة

في ليلة رأس السنة وفي مقهى برليني، حيث الثلج يغطي المكان، وعلى وقع أنغام الموسيقا وضحكات الساهرين ورقصهم، يشرع ريكاردو في بقراءة مسودة مدّ بها الرجل إليه راحا يقرآن معا تفاصيل تداعيات أحداث مرت على الساحة السودانية، كان لها الأثر الأكبر في التغير الديمغرافي و والاجتماعي. مع أن الزمن الفعلي للسرد بين ريكاردو والرجل لا يتعدى سوى ساعات قليلة هي مجرّد سهرة عابرة .

استطاع الراوي من خلال التقاء الرجلين مصادفة مدّ خيوط الأحداث وتشعبها من خلال العودة إلى البدايات، حيث القرية التي باتت تكبر مع وجود محطّة القطار فيها ومن ثم اكتشاف البترول إلى نبوءة شيخ النحلان حيث تنبأ يوما أنّ خيراً كثيراً يعمّ القرية ومن ثم لعنة ستحلّ بالبلد عند عودة القطار !! يعود القطار مرتين في كلّ مرة يحمل همّاً مختلفاً ومِعولاً جديداً يحفر به عميقاً في خريطة الوطن .

تشغل هذه المسودة الغريبة ريكاردو وهو صاحب الخبرة في العمل الإغاثي في أفريقيا بشكل عام وهو العارف بخبايا عمل منظمات الإغاثة في أفريقيا، فقد سبق له أن عمل فيها يقول عن تجربته:

“اهتممتُ في عملي كناشطٍ اجتماعيّ في إفريقيا بمآسي عدّة أسر، كنّا نساعد الأطفال جراء حروب أهلية ونزاعات بسيطةٍ على الماشية، تُحوّل إلى نزاعات وحروب شرسة، غير أنّي معك هنا.. ومسودة، محمّد وأسرته، أحسّ بحزنٍ أعمقَ مما ألفته لا أدري لماذا؟”

وهنا تطرح الرواية القضايا المتعلقة بدور ألمانيا في رعاية اتفاقيات تقسيم السودان ودور هذه المنظمات غير البريء حسب رأي الرجل ورأي ريكاردو في ذلك، ريكارد و المتذمر أيضا من رتابة القوانين الألمانية وكيلها بمكيال مصلحتها ، كان يدخل عمق النص ” المسودة ” يتفاعل مع كلّ تفصيلة فيها يحرّك مجرى الأحداث، وفي هدأة تفكيره يقفز ليرقص مع امرأة في المقهى ويدخن سيجارة يشرد قليلاً لكن من دون أن يترك خيط الروي يفلت منه.

نبوءة عودة القطار :

يتنبأ شيخ النحلان بعودة القطار، تبدأ الرواية من مشهد متحرّك ينسحب على نهاية الرواية “طفقَ قرصُ الشمس يتوارى رويداً رويداً طيّ الشفق، فارتعش الأثير إثر نسمة تهادت من الشمال، وانتعشت المحطّة المهجورة كأنّها أفاقت بعد سُبات سنين على وقع هدير عجلات القطار”

يا قطار الشمال / يا قطار الجنوب / يا قطاراً صدئت بلون المحطّة/نمتَ /استرحتَ/ أمام البيوت.

تتكرر هذه اللازمة الشعرية في الرواية عدّة مرات في حالات تناوبية بين مقاطع الرواية وكأنها الصدى الداخلي لروح الراوي حتى تغدو الخلفية الايقاعية التي ترسم خيالات الهواجس والخوف المرتقب مما حدث في السودان وكاّن لسان حال الراوي يقول ليت القطار لم يعد .

القطار و محطته القطار التي تركها المسافرون ومن ثم طاقم المحطّة ولم يبق فيها سوى العجوز والغراب الأقرع وهي إيحاءات رمزية استطاع الكاتب من خلالها التأكيد على روتينية الحياة وقلق الانتظار ووحشته.

من جهة ثانية تأتي شخصية شيخ النحلان بما تحمله من روح الهدوء وقراءة الواقع والمستقبل بناء على معرفته بسكان القرى وطبيعتهم، فهو ما يكف عن توجيه اللوم لهم دائما في كل مناسبة داعياً مذكراً إياهم أن أفعالهم الشنيعة سوف تحلّ عليهم اللعنة وهي لعنة وسنرى فيما بعد أنها وباءٌ حلّ بالبلاد وكأنه قادم من كوكب آخر، راح هذا الوباء يفكك المجتمع وانتهى بتقسيم البلاد.

في حين أن ناظر المحطة العجوز المدمن على الانتظار، لا يخفي قلقه من الرمال الزاحفة تجاه المحطة و اتساع زحف الأبنية وتلاشي المراعي واستبدال الحمير بالسيارات “الخلوية “ذات الدفع الرباعي القطار الذي قذف بسكان القرى البسطاء في زحمة المدن، باتوا يعودون متنكرين لتاريخهم، تغيرت سحنتهم صارت علامات القلق والجدّ سمتهم الغالبة بينما العجوز ركن إلى اليأس وتهالك جالساً على الأرض، عسى أن يسمع هدير عجلات القطار يصل إلى القرية.

قصة حبّ ومولود “لحم راس”

على متن الأحداث الرئيسة في الرواية هناك شخصيتان رئيستان (نانجور ومحمد ) تربطهما علاقة حبّ ومن ثم زواج هما رمزياً يشكلان قطبي وطن بين شماله وجنوبه، بما يحمله من هموم وأعباء،

تبدأ علاقتها حين تلتقي نانجور بالشاب الشمالي محمد جريحاً في إحدى المعارك، تسفعه بما تعلمته من خبرة علمها إياها جدّها وذلك باستخلاص الأدوية من أعشاب الغابة وأوراق أشجارها.

يدوران في دوامة الاعتراف بهما كإنسانين، لهما ما لكل البشر من مشاعر وخيارات، يعيش كلّ واحد منهما مع صراع وهواجس رفض قبيلة الآخر له، فنانجور تعرف ما يكنّه لها أهل محمد، وكذلك محمد يعرف ما ستلاقيه نانجور إن عادت إلى أهلها وقد عرفوا بزواجها من الشمالي محمد.

يصطدم محمد ونانجور بأعراف القبيلة التي لم تراعِ أدنى قيمة لاختيارهما، أما على صعيد الدين فنانجور مسيحية وهذا عائق آخر يقف في طريق تقبلهما من الأسرة والقبيلة.

يعرض الراوي مواقف متناقضة من هذا الزواج وصلت إلى محمد على شكل رسائل من معارفه وأقاربه، كلّ رسالة تمثل وجهة نظر مرسلها وطريقة تفكيره ورؤيته للواقع من منظوره الشخصي، منهم من يؤيد هذا الزواج ومنهم من يجعله باطلاً يخالف الأعراف والتقاليد وسياسة القبيلة وبالتالي الدين، بل يدعوه لترك نانجور ويتزوج بأخرى، هذه الرسائل الضمنية المشفرة ابداعيا هي ذاتها المواقف من تقسيم السودان وشكل الدولة الذي ستؤول إليه.

أمّا محمد ونانجور فقد كانا من خلفية واعية اجتماعياً، اتخذا قرار الزواج منفصلين، هما يدركان مآلات الأحداث وقبح الحرب وأسبابها ونتائجها، لكن ما بيدهما حيلة، في البداية تعرضت علاقتهما لكثير من الهزات لكنهما تجاوزا ذلك بالصمت مرّة وبالحوار مرات، لكن يد القدر أسرع إلى فصل تلك العلاقة ” بموت محمد” وربما اغتياله، يضيع دمه في التأويلات والتحليلات، أهمّها أن من قتله، هو موقفه من الحرب ومن انفصال السودان شماله عن جنوبه.

استطاع الراوي ادخال الأحداث في مأزق أخر حين حملت نانجور من محمد بطلفها ” نادر” الطفل الذي ترفضه الأسرتان و القبيلتان أيضاً، ويغدو “الطفل المعذب” في المجتمع.

نادر الذي تضيق به الأرض على رحابتها به و السودان بخارطتها الشاسعة ، هو المولود من علاقة لم تباركها القبيلة، تهرب به أمه بمساعدة جدّها، ثم تضعه في ملجأ للأيتام، يحار في ماهية ديانته، تتلو عليهم راهبة الدير حكايا الإنجيل في الليل ويرعى البقر في النهار، يكابد من أجل أن يكون مثل بقية البشر، لكنه لا يطال أسرة أمّه ولا قبيلة أبيه ويبقى ” لحم راس” كما يسمي البعض تلك الحالة لمرفوضي النسب، يدور نادر في متاهات أن يكون سودانياً حراً ابن محمد ونانجور ابن علاقة إنسانية سويّة شوهت القبيلة و الحرب ملامحها.

شب نادر لكن حياته لم تكن كبقية الأطفال ( لم تكن حياه نادر سهلةً، وبالفعل كان كما سميته “طفلٌ معذّب” ترعرع في ملجأ أيتام وأطفال الحرب، حتى أصبح صبياً ممشوق القوام وسيم الملامح كأبيه محمّد، بنيّ اللون كنانجور والدته)

نادر الذي يحبّ الرسم والنحت، يرسم الغزلان، يطارد أحلامه خلفها، لا يعرف عن والديه إلاّ القليل، يسكن في ملجأ فيه الكثير من الأطفال من القبائل المتحاربة والمتصارعة ويهملون ويتركون للصراعات التي تركها الكبار صدعاً في طفولتهم. وهنا يسهب الراوي في حواره مع ريكاردوا عن تجربة تجنيد الأطفال في الحروب والصراعات الداخلية في أمريكا الجنوبية وأسيا، إلاّ أن في أفريقيا، كانت القضية اعقد بسبب حالة الجهل الذي تلقّنه تعاليم القبيلة على أنّها مقدّسات، بالإضافة إلى دعوات الجهاد باسم الدين، يروي ريكاردو كيف كانت تُحرق بيوت الأسر التي ترفض إرسال أبنائها الى الحرب، وكيف كان الأطفال، يُهانون ويعذّبون ولا يتمّ اسعافهم حال إصابتهم في المعارك ضد جيش الحكومة وبالتالي انعكاس ذلك كلّه على حالتهم النفسية، وهنا أسهب د. أمير في الحديث عن معاناة الأطفال وقد نجح في رصد هذه المعاناة التي انعكست على تيه نادر، وضياعه في الحياة وتقلّب أفكاره وأعماله من مطرب إلى عامل بناء إلى السجن إلى قصة حبّ فاشلة وغيرها من الأوجاع في حين كانت سيلفيا السويدية صديقة أمه من يدعمه مالياً

ويساعده من بعيد . وبالتالي فإن شخصيات الرواية الأساسية نهايتها مأساوية فنانجور تنتحر في أخر الرواية أيضاَ

تأتي رواية نانجور ،أو كما يطرح لها الكاتب اسما بديلاً “أبنوسة” كعمل أدبي له أهميته وخصوصيته من خلال معالجته لقضية إنسانية من منظور العلاقة بين الأفراد والدول، وقد كانت أمينة للغتها المنتمية للبيئة التي تفاعلت فيها الأحداث فقد استخدم السارد الكثير من الكلمات التي تنتمي للبية المحلية ولذلك دوره في الإحالة تثيبت ما يريده الكاتب فنيا في ذهن القارئ.

في النهاية يختصر ريكاردو ما في المسودة في قوله “إنّ هذه القرية نموذج مصغّر للسودان، شبيه به بمؤذنيها وبأزماتهم التافهة والمستعصية منها، بل وتضاريسها أيضاً لا تختلف عنه صحراء قي الشمال وغابة وأحراش جنوبها”

شارك الخبر

Comments are closed.